أوكرانيا: الحرب الصامتة: البُنى التحتية للطاقة كساحة صراع

في خضم الصراع المشتعل في أوكرانيا، لم تعد المعارك تُقاس بعدد القذائف ولا بحجم الدمار في المدن، بل بالبنية التحتية التي تُصاب في صميمها. فشبكات الكهرباء، وأنابيب الغاز، ومحطات الطاقة النووية تحوّلت إلى جبهة خفية في حرب تتجاوز الميدان العسكري إلى هندسة الوعي والاقتصاد والسيطرة الجيوسياسية. هذه الحرب الصامتة تُدار عبر مفاتيح الضغط الطاقي، لا عبر فوهات البنادق فقط.

سلاح الطاقة: معركة النفوذ قبل الدمار

منذ اليوم الأول للحرب، أدركت موسكو أنّ السيطرة على مصادر الطاقة الأوروبية هي الورقة الأكثر تأثيرًا في الصراع. فالهجمات على محطات الكهرباء في أوكرانيا لم تكن مجرد عمليات انتقامية، بل استراتيجية لتفكيك قدرة الدولة على الصمود وإجبار الغرب على إعادة حساباته.
وفي المقابل، استخدم الغرب البنية التحتية ذاتها كسلاح مضاد؛ بتجميد المشاريع، وفرض العقوبات، وإعادة رسم خريطة الإمداد عبر خطوط بديلة، في مسعى لعزل روسيا عن السوق الأوروبية وإعادة بناء «سوق طاقة جديدة» تحت المظلة الأمريكية.

أوروبا بين البرد والخضوع

تحوّلت أزمة الطاقة إلى اختبارٍ وجودي للاتحاد الأوروبي. فالمعركة لم تكن بين روسيا وأوكرانيا فقط، بل بين أوروبا وذاتها: بين رغبتها في الاستقلال الاستراتيجي وخضوعها لمنظومة الأمن الأمريكي. ومع كل شتاء يقترب، يتجدد السؤال ذاته: هل تستطيع أوروبا أن تدفئ بيوتها دون أن تحرق سيادتها؟
لقد أعادت هذه الأزمة كشف هشاشة النموذج الأوروبي، الذي بُني على استيراد الاستقرار من الخارج وتصدير الخطاب القيمي للداخل، حتى جاءت الحرب لتكشف أن قيم الحرية لا تُضيء المصابيح إذا انقطعت الكهرباء.

الهندسة الجيوسياسية للطاقة

خلف كل أنبوب غاز وشبكة كهرباء، ثمة معادلة سياسية تُرسم. فروسيا لا ترى في أوكرانيا مجرد جارٍ متمرد، بل بوابةً للهيمنة الغربية على قلب أوراسيا. والسيطرة على البنية التحتية هناك تعني السيطرة على المفصل الطاقي بين الشرق والغرب.
أما واشنطن، فترى في تفكيك هذه الشبكة فرصة لإعادة تشكيل النظام العالمي لصالحها: تحويل أوروبا من زبون للغاز الروسي إلى مستوردٍ للغاز الأمريكي المسال، أي من شريك سياسي إلى تابعٍ اقتصادي.

البنية التحتية كأداة وعي

لا يقتصر الصراع على أنابيب الوقود، بل يمتد إلى أنابيب الوعي. فالإعلام الغربي يصور استهداف المنشآت الطاقية كعملٍ «غير إنساني»، بينما يتجاهل أن تدمير البنية التحتية في الحروب الحديثة أصبح جزءًا من العقيدة العسكرية الأمريكية ذاتها. الحرب لم تعد في السماء أو الأرض، بل في الشبكات — شبكات الطاقة، والإنترنت، والتمويل، والمعلومات.

خاتمة

ما يجري في أوكرانيا ليس حربًا بين دولتين بقدر ما هو اختبارٌ لمستقبل النظام العالمي القائم على الطاقة. فالعالم يتجه نحو عصرٍ تُدار فيه الإمبراطوريات لا بالأساطيل، بل بالمفاتيح الكهربائية.
إنها حرب صامتة لأنها تُطفئ المدن دون أن تُطلق النار، وتعيد تشكيل الجغرافيا السياسية من تحت الأرض، عبر الأنابيب والأسلاك والمولدات. ومن يفهم اليوم معادلة الطاقة، يفهم شكل الإمبراطورية القادمة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.