
التمهيد: التدافع كقانون حضاري
منذ أن بدأ الإنسان ينظم حياته في جماعات، ظهر قانون غير معلن يحكم بقاء التوازن في التاريخ: قانون التدافع. إنه ذلك التفاعل المستمر بين القوى الذي يمنع الانفراد والجمود، ويُبقي الحركة البشرية في دورة لا تنتهي من التوازن والتصحيح.
فحين تنفرد قوة بالحقيقة أو بالسلطة أو بالهيمنة، تنشأ قوى مقابلة تدفعها أو تحدّ منها، حتى لو اختلفت الأدوات: حربًا، أو فكرًا، أو اقتصادًا، أو ثقافةً. بهذا المعنى، التدافع ليس صدامًا بالضرورة، بل هو دينامية التوازن بين إرادات البشر والحضارات، التي لولاها لفسدت الأرض.
التاريخ حين يُقرأ من زاوية التدافع لا يبدو سلسلة من الصدامات العشوائية، بل منظومة من التفاعلات التصحيحية. كل مرحلة من مراحل القوة تستدعي نقيضها، وكل ذروة هي مقدمة لميزان جديد. بهذا المنظور، لا تسقط الإمبراطوريات فقط لأنها ضعفت، بل لأنها عطّلت قانون التدافع داخليًا، فتآكلت من الداخل قبل أن تُدفع من الخارج.
التدافع العالمي في القرن الحادي والعشرين
يدخل العالم اليوم طورًا جديدًا من هذا القانون، حيث تتهيأ بنية النظام الدولي لإعادة توزيع القوة. فمنذ نهاية الحرب الباردة، عاش العالم حالة اختلال حاد تحت هيمنة القطب الأمريكي، الذي سعى إلى تثبيت «نهاية التاريخ» كما وصفها فوكوياما، أي نهاية التدافع ذاته.
لكن التاريخ لا يعترف بالنهايات. فبعد ثلاثة عقود من الانفراد الأمريكي، عاد ميزان التدافع ليفرض منطقه الطبيعي. القوى الصاعدة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت من تراكم ردود الفعل الحضارية والسياسية والاقتصادية على أحادية القوة.
من الهيمنة إلى التوازن: ملامح التحول
تتجلى اليوم معالم هذا التدافع في أكثر من محور:
-
التدافع الجيوسياسي:
الصين تمد نفوذها في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لا عبر الغزو العسكري بل عبر مشروع “الحزام والطريق”، الذي يُعيد تشكيل خرائط النفوذ الاقتصادي والبنى التحتية العالمية. في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى محاصرة هذا التمدد بتحالفات بحرية واقتصادية جديدة (AUKUS، QUAD، G7 الموسع)، لتبقى في مركز القرار العالمي. -
التدافع العسكري والأمني:
الحرب الأوكرانية لم تكن صدامًا محليًا، بل لحظة كاشفة لعودة منطق “الكتل الصلبة”. روسيا رأت في تمدد الناتو تهديدًا لتوازن القوة، ففعلت ما تمليه طبيعة التدافع. الغرب من جانبه يحشد كل أدوات الردع والعقوبات، فيتسع الصراع من الميدان إلى النظام المالي والطاقة والمعلومات. -
التدافع الاقتصادي والتقني:
لم تعد المعركة حول الأراضي فقط، بل حول السيطرة على التكنولوجيا وسلاسل الإمداد. حرب الرقائق بين واشنطن وبكين نموذج واضح لتدافع من نوع جديد، إذ صار الابتكار هو السلاح، والبيانات هي ميدان النفوذ. -
التدافع القيمي والإعلامي:
لم يعد الإعلام ناقلًا للحدث، بل أداة صوغ للواقع نفسه. كل كتلة حضارية تحاول فرض تعريفها للحقيقة والحرية والديمقراطية والحقوق. وهنا يظهر التدافع في أخطر أشكاله: تدافع على وعي الإنسان، وعلى صورة العالم في ذهنه.
الجنوب العالمي وعودة الهامش
في ظل هذا التبدل، برز ما يُعرف اليوم بـ«الجنوب العالمي» كقوة كامنة جديدة في معادلة التدافع. لم تعد الدول النامية مجرد ساحة نفوذ، بل بدأت تُعيد تعريف نفسها كلاعب مستقل بين الشرق والغرب.
فمن دول البريكس إلى منظمة شنغهاي، تتشكل بنية بديلة ببطء، لا لتدمير النظام القائم بل لتعديله. هذه القوى لا تطرح خطابًا ثوريًا، بل واقعيًا: توازن المصالح بدل الهيمنة، وتعدد الأقطاب بدل المركز الواحد. إنها لحظة استعادة الهامش لحقه في المشاركة في صياغة المعنى العالمي.
الغرب في مواجهة قانون التاريخ
الولايات المتحدة وأوروبا تواجهان اليوم سؤالًا وجوديًا: هل يمكن الحفاظ على الهيمنة في عالم لم يعد يقبل القطب الواحد؟
ما يحدث ليس مجرد فقدان نفوذ، بل تحدٍّ لأساس الرؤية الغربية للعالم. فالتدافع الراهن يكشف أن “النظام الدولي الليبرالي” لم يكن نظامًا كونيًا كما صُوِّر، بل مرحلة ضمن سلسلة من المراحل التي يمر بها التاريخ.
وكل محاولة لتجميد التدافع — سواء باسم “النظام العالمي القائم” أو “القيم المشتركة” — تصطدم بالواقع الذي يعيد التوازن من جديد، مهما طالت فترات الاختلال.
نحو مرحلة ما بعد الأحادية
نحن الآن في مرحلة انتقالية، لم تتشكل فيها ملامح التوازن النهائي بعد. العالم يتجه إلى تعددية مضطربة: لا شرقٌ قادر على فرض بديله الكامل، ولا غربٌ قادر على استعادة انفراده السابق.
وهذا ما يجعل التدافع اليوم أكثر تركيبًا من أي وقت مضى، إذ يجري في كل المستويات معًا: جيوسياسيًا، واقتصاديًا، معرفيًا، وتكنولوجيًا. إنه تدافع شامل يعيد صياغة بنية الوعي قبل بنية القوة.
خاتمة: الوعي بالتدافع
حين نفهم العالم من خلال قانون التدافع، نكفّ عن النظر إلى الصراعات باعتبارها كوارث، بل نراها آليات تصحيح. فالتاريخ ليس ساحةً للهيمنة الدائمة، بل توازن مستمر بين إرادات متقابلة.
العالم لا يسير نحو “نهاية” بل نحو إعادة توزيعٍ مستمرةٍ للقوة والمعنى. والمجتمعات التي تدرك موقعها في هذا التدافع، هي وحدها التي تستطيع أن تبقى فاعلة لا مفعولًا بها، مشاركة لا مُستعمَلة.
فالتدافع ليس صراع البقاء، بل وعيٌ بالبقاء.