في ميزان السنن الكونية، لا تعرف القمم الاستقرار. فكل ارتفاع يحمل في جوفه نواة الانحدار، وكل ذروة قوة هي – من حيث لا تدري – أول خطوة في مسار التراجع. إن التاريخ لا يثبت حضارة في موقع السيادة إلى الأبد، بل يوزّع المجد بين الأمم وفق حركة دورية أشبه بالتنفس الكوني: صعودٌ يليه خفوت، ثم أفول يعقبه ميلاد جديد. هذه ليست مصادفة، بل قانون إلهي يضبط حركة العمران البشري، حيث تتناوب الأمم على حمل أمانة القيادة كما تتناوب الفصول على الأرض.
سنن الكون: القمة لحظة هشاشة
في الطبيعة، تبلغ الشجرة أقصى ارتفاعها لحظة تبدأ جذورها في الضعف. كذلك الدول، حين تصل إلى قمة القوة العسكرية أو الاقتصادية أو الحضارية، تبدأ آليات الانهيار في التشكل داخلها دون أن تشعر. فالقمة ليست مقامًا للثبات، بل ذروة التمدد الذي لا يحتمل مزيدًا من الاتساع.
من الناحية السننية، يعجز أي كيان عن تجاوز قانون التوازن؛ فكل طغيان في جانب يولد نقيضًا في الجانب الآخر. عندما تبلغ الدولة أوج سيطرتها، يتضخم جهازها البيروقراطي، وتتشبع نخبها بالمصالح، وتفقد القيادة حسّ الخطر الذي كان دافعها في مرحلة الصعود. هكذا تتحول القوة إلى عبء، والطموح إلى ترف، والوعي إلى غفلة.
من روما إلى واشنطن: التكرار بصيغ مختلفة
روما بلغت مجدها حين بسطت سلطانها على البحر الأبيض المتوسط كله، لكنها في تلك اللحظة تحديدًا بدأت تفقد روحها الجمهورية التي صنعت نهضتها الأولى. تحوّل الجيش الذي كان رمز الانضباط إلى أداة للترف، وأصبح المواطن الروماني يعيش على عطايا الدولة لا على عمله. حينها، لم تعد روما "قوة صاعدة" بل "إمبراطورية متخمة"، تستنزف نفسها من الداخل قبل أن يغزوها أحد.
وفي السياق نفسه، عاش الاتحاد السوفيتي لحظة قمة عسكرية هائلة في سبعينيات القرن العشرين، حين صار نِدًّا للولايات المتحدة في التسلح والفضاء. غير أن هذا التوسع العسكري أخفى تحت سطحه انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا متسارعًا. تحولت الأيديولوجيا إلى بيروقراطية جامدة، وانفصل الخطاب عن الواقع، حتى سقط النظام دون حرب تُذكر. لقد أكلته آليات الصعود نفسه.
أما الولايات المتحدة، فهي المثال الأحدث على هذه السُنّة. بلغت ذروة هيمنتها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، معلنةً "نهاية التاريخ"، لكنها اليوم تواجه أعراض الشيخوخة الإمبراطورية ذاتها: انقسام داخلي، تضخم ديون، تراجع الثقة بالمؤسسات، وتمدّد عسكري بلا غاية. حين تظن القوة العظمى أن النظام الدولي صار امتدادًا لحدودها، يبدأ العدّ التنازلي لتراجعها، لا لأن أعداءها أقوى، بل لأنها فقدت مبرر وجودها كقوة أخلاقية وتاريخية.
القوة الاقتصادية: حين تُخفي الوفرةُ هشاشة العمق
اقتصاديًا، يتكرر المشهد نفسه. فكل ازدهار مفرط يُخفي وراءه خللًا في التوازن الاجتماعي أو الإنتاجي. الإمبراطوريات التجارية عبر التاريخ — من البندقية إلى بريطانيا — وصلت إلى ذروة غناها قبل أن تنهار تجارتها. حين تتحول الثروة إلى رأسمال جامد بدل أن تكون قوة إنتاج، تُصاب الأمة بالشيخوخة الاقتصادية.
اليوم نرى الصين تصعد بسرعة مذهلة، لكنها تواجه تحديًا داخليًا خفيًا: تضخم في الاقتصاد العقاري، تفاوت طبقي متزايد، وضغط ديموغرافي يهدد نموذج النمو نفسه. إنها تقترب من القمة، لكن القمة — وفق سنن التاريخ — ليست هدفًا بل اختبارًا. والاختبار الحقيقي هو: هل تستطيع البقاء دون أن تستهلك روحها كما فعلت القوى التي سبقتها؟
حتى النمور الآسيوية — مثل اليابان وكوريا الجنوبية — عاشت هذه التجربة. فبعد فترات نمو هائلة في منتصف القرن العشرين، دخلت اليابان في ركود طويل الأمد منذ التسعينيات، ليس بسبب حرب أو عقوبات، بل لأن نظامها الاقتصادي وصل إلى أقصى طاقته دون قدرة على التجدد. إنها الشيخوخة الاقتصادية التي لا ينجو منها مجتمع بالغ الاكتفاء.
المجتمع: حين يتحول الوعي من البناء إلى الاستهلاك
القوة لا تُقاس فقط بالسلاح أو المال، بل بنوعية الوعي الجمعي. والمجتمعات الصاعدة تتميز دومًا بحافز الكفاح والإيمان بالمصير. أما حين تصل إلى القمة، يذوب هذا الإيمان في الترف والذاتية. تتحول القيم من “مشروع الأمة” إلى “رفاه الفرد”، ويصير المواطن مستهلكًا أكثر منه مساهمًا في الحضارة.
هذه التحولات ليست أخلاقية فحسب، بل سياسية واقتصادية. فحين ينهار الإيمان المشترك بالمستقبل، تبدأ مؤسسات الدولة في التآكل، لأن الرابط الذي كان يوحدها لم يعد قائمًا. ولعل ما يحدث في الغرب اليوم من استقطاب اجتماعي وصعود للتيارات الشعبوية ليس إلا مظهرًا لهذا التفكك القيمي، حيث فقدت المجتمعات معنى “الرسالة” التي كانت تبرر مكانتها العالمية.
السنّة الخفية: دورة القوة والوعي
القوة لا تنهار من الخارج، بل تُستنزف من الداخل حين تنفصل عن وعيها الأول. هذه هي السُنّة الخفية التي تتكرر في كل عصر. فحين تنشأ الحضارة على أساس من الإيمان والعمل والعلم، فإنها تتقدم بثبات. لكن حين تظن أنها صارت غاية الوجود نفسه، تفقد البوصلة وتدخل طور الانحدار.
إن دورة الحضارات أشبه بدورة الإنسان: الطفولة طاقة، والشباب قوة، والشيخوخة استهلاك لما كان. وما بين هذه المراحل، لا يستطيع أي مجتمع أن يتجاوز طبيعته البشرية. فالخلود ليس من صفات الدول، بل من صفات القيم التي تحييها. ولهذا تبقى الرسالات، بينما تتساقط الإمبراطوريات.
في ضوء الحاضر: قِمَم بلا جذور
العالم اليوم يعيش لحظة توازن مضطرب، إذ لم تعد هناك "قوة قائدة" واضحة، بل مجموعة قمم متوازية، كلٌّ منها يحمل في داخله بذور أفوله. الولايات المتحدة تتراجع، والصين تتباطأ، وروسيا تُستنزف في حروبها، والاتحاد الأوروبي يغرق في شيخوخته البيروقراطية. إننا نعيش مرحلة "ما بعد القمم"، حيث لم تعد القيادة حلمًا، بل عبئًا يهرب منه الجميع.
هذا الوضع لا يعني الفوضى فقط، بل يفتح الباب أمام دورة جديدة من التاريخ، ربما تولد فيها قوة جديدة من خارج النظام القديم، كما خرجت روما من رحم اليونان، والعالم الجديد من رماد أوروبا الاستعمارية. فحين تسقط القمم، لا ينتهي العالم، بل يُعاد تشكيله.
خاتمة: منطق الانهيار وسُنّة الاستخلاف
استحالة البقاء في القمة ليست مأساة، بل ضمانة لاستمرار الحياة. فلو بقيت أمة واحدة مهيمنة إلى الأبد، لتوقف التاريخ، وجفّ التنوع الإنساني. لكن السنن الكونية تضمن التداول: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".
إن فهم هذا القانون هو ما يصنع الوعي السياسي الحقيقي؛ إذ لا يُقاس نهوض الأمم بعلوها المؤقت، بل بقدرتها على التجدد كلما بلغت القمة. فالقوة الحقيقية ليست في البقاء في القمة، بل في معرفة متى وكيف تنزل عنها بكرامة لتبدأ دورة جديدة من الصعود.
