
إفريقيا: القارة التي لا تنام ولا تتكلّم
ما يجري في السودان، والكونغو، والنيجر، ومالي، ليس مجرد اضطرابات محلية أو انقلابات تقليدية، بل إعادة رسمٍ لحدود السيطرة ومصادر الثروة وطرق التجارة. فالمعادن النادرة، والذهب، والنفط، واليورانيوم، لم تعد مواد أولية فحسب، بل عناصر في معادلة النفوذ الجيوسياسي العالمي.
من يملك حق التنقيب والتصدير؟ من يتحكم في الموانئ؟ ومن يموّل الجيوش المحلية؟
هذه الأسئلة، التي تبدو اقتصادية أو أمنية، هي في حقيقتها أسئلة سيادة. والسيادة هي آخر ما يُسمح لأفريقيا بامتلاكه.
ساحات الصراع الجديدة: من الخرطوم إلى كينشاسا
في السودان، تتبدّى الفوضى كنتاج متعمّد لتفكيك الدولة. حربٌ طويلة تغذّيها مصالح خارجية تبحث عن توازن قوى هشّ، يسمح بإعادة صياغة المشهد السياسي بما يضمن بقاء النفوذ الأجنبي.
وفي الكونغو، تتقاتل الجماعات المسلّحة على ثروات "الكولتان" والذهب، بينما تصمت العواصم الأوروبية التي تستفيد من هذا النزف المستمر. كل شركة تكنولوجية غربية تقريبًا تُنتج أجهزتها من معادن مستخرجة من مناطق الصراع، لكنها تتحدث عن “الاستدامة” و“المسؤولية الاجتماعية” بوجهٍ أخلاقيّ زائف.
أما النيجر ومالي، فهما المرآة الأوضح لتبدّل موازين النفوذ الفرنسي بعد تراجع باريس وتقدّم روسيا عبر مجموعة فاغنر سابقًا، ثم عبر بدائل أمنية محلية مدعومة من موسكو أو بكين.
انهيار السردية الغربية عن “الاستقرار”
على مدى عقود، صُوّرت أفريقيا كقارة “تحتاج إلى المساعدة”، تحت عنوان إنساني يُخفي نظامًا اقتصاديًا محكومًا بالديون والمنح المشروطة.
لكنّ العقد الأخير كشف زيف هذه السردية. فحين خرجت بعض الدول الأفريقية من عباءة باريس وواشنطن، لم تكن تبحث عن "عدو جديد"، بل عن فرصة لبناء علاقاتٍ متكافئة ولو مع قوى مختلفة. هنا تبدأ الأزمة بالنسبة للغرب: لأنّ استقلال القرار في القارة يعني بالضرورة فقدان السيطرة على المواد الخام، وعلى مسارات التصويت في الأمم المتحدة، وعلى الموانئ الاستراتيجية التي تربط المحيط الهندي بالأطلسي.
من “الوصاية” إلى “المنافسة”
ما يحدث اليوم ليس فقط تمردًا سياسيًا، بل تحوّل بنيوي في مفهوم القوة داخل القارة. لم تعد المعركة بين دول كبرى وأخرى تابعة، بل بين نموذجين متناقضين للنفوذ:
نموذج الوصاية الغربية الذي يربط الدعم بالمشروطية السياسية والاقتصادية، ونموذج الشراكة الشرقية (روسيا–الصين) الذي يقدّم التعاون دون إملاءات أيديولوجية.
لكنّ كلا النموذجين لا يخلو من حسابات المصلحة؛ الفرق أن الشعوب الأفريقية أصبحت أكثر وعيًا بطبيعة اللعبة، وأكثر جرأة على رفض الخطاب الأبوي الذي سيطر لعقود.
الصمت الدولي: سياسة وليست صدفة
قلة التغطية الإعلامية ليست نتيجة إهمالٍ عابر، بل سياسة اتصالية مدروسة. فكلما قلّ حضور الصراعات الأفريقية في المشهد الإعلامي، زادت قدرة القوى الكبرى على التحرك بحرية في الظل.
الإعلام الغربي يوجّه الكاميرا نحو أوكرانيا، والشرق الأوسط، وتايوان، ليبقي أفريقيا في الهامش. لأنه يعرف أنّ من يُسيطر على “الهامش” يملك القدرة على إعادة صياغة “المركز” لاحقًا.
إفريقيا القادمة: ميدان التوازن لا التبعية
إذا استمر هذا المسار، فإن أفريقيا خلال العقد القادم لن تكون مجرد مساحة تنافس، بل ساحة حاسمة لإعادة ترتيب النظام الدولي.
التحركات الأفريقية نحو إنشاء تكتلات إقليمية جديدة (كالساحل الأفريقي الموحد، أو محاولات توسيع دور الاتحاد الأفريقي في التسويات الأمنية) قد تشكّل بداية لمرحلة تتجاوز الوصاية.
لكن الشرط الأساس هو بناء مؤسسات سياسية واقتصادية قادرة على تحمّل الاستقلال، لا أن تُستبدل وصاية بأخرى.
خاتمة
القارة التي حاول العالم أن يجعلها "صامتة"، بدأت تتحدث بلغتها الخاصة.
لم تعد أرض التجارب ولا ملعب القوى الخارجية فحسب، بل مختبر ولادة نظام عالمي جديد تُختبر فيه حدود الهيمنة نفسها.
ومن يتجاهل أفريقيا اليوم، سيكتشف غدًا أنّه تجاهل قلب النظام العالمي القادم.