
في الظاهر، تبدو كأنها حركات شبابية تطالب بالعدالة والحرية، لكن في العمق، هي معارك وعي بين جيلٍ يريد بناء شرعية جديدة، وأنظمةٍ تُحاول ترميم شرعية متهالكة عبر إعادة ضبط شكل النظام لا جوهره.
اللافت اليوم ليس عودة الاحتجاجات، بل الطريقة التي يتعامل بها النظام الإقليمي معها: بالقمع أحيانًا، وبالاحتواء الإعلامي والإصلاحات الشكلية أحيانًا أخرى.
جيل جديد بلا ذاكرة خوف
الجيل الذي خرج إلى الشوارع في العقد الأخير لا يحمل ذاكرة الحروب القديمة ولا سرديات الأنظمة المؤسسة، بل يعيش تجربة عالم رقمي مفتوح يرى فيه العالم كما هو، ويقارن بلا وساطة.
هو جيل لا يخاف لأنّه لا يملك ما يخسره، ولا يثق لأنّه لم يرَ في أنظمته إلا إعادة إنتاج للخطاب ذاته: “نحن نعرف مصلحتكم أكثر منكم”.
هنا تكمن قوة هذا الجيل وضعفه معًا — قوته في حريته، وضعفه في غياب مشروع سياسي واضح يجمع وعيه المشتّت.
من الشارع إلى المنصّة: هندسة الاحتجاج إعلاميًا
الاحتجاجات لم تعد تُدار من الميدان فقط. الأنظمة تعلّمت من موجة الربيع العربي الأولى كيف تُعيد هندسة المشهد.
فبدل قمعٍ مباشر قد يُثير تعاطفًا خارجيًا، ظهرت أدوات أكثر دقة:
-
التضخيم الإعلامي لبعض المطالب لتفريغها من معناها،
-
تسليط الضوء على “المطالب الخدمية” لإخفاء جوهر الاحتجاج السياسي،
-
وأخيرًا، استخدام شبكات التواصل لتتبع الناشطين أو لتشويه صورتهم.
هكذا تحوّل “التغيير” إلى مشروع مراقَب ومحدّد الإطار، لا يُسمح له بتجاوز الدور المرسوم.
الاحتجاج كصمام أمان للنظام
الظاهرة اللافتة أن بعض الأنظمة لم تعد تخشى الاحتجاج، بل تسمح به جزئيًا وتستخدمه لتجديد شرعيتها.
حين يخرج الناس غاضبين في مساحة محدودة وتُترك لهم لحظة للتنفيس، يتحوّل الاحتجاج إلى وسيلة “تنظيف ضغط” بدل أن يكون وسيلة تحوّل سياسي.
هكذا تتحوّل حركة الجماهير من فعل مقاومة إلى جزء من نظام السيطرة — أشبه بصمّام أمان مدروس لا يهدّد الكيان بل يبرّره.
الدعم الخارجي وصناعة التمرّد الموجَّه
لا يمكن تجاهل أن بعض الحركات الاحتجاجية باتت تُستثمر من الخارج. القوى الغربية وجدت في “المعارضات المحلية” أداة مثالية للتأثير غير المباشر.
فبدل الغزو أو الوصاية المباشرة، أصبحت تموّل “مبادرات مدنية” ومنصات إعلامية ومنظمات حقوقية تحمل خطاب الحرية والديمقراطية، لكنها تعمل ضمن أجندة جيوسياسية دقيقة.
وهكذا تتكرّر المأساة: يُستبدل نظام مستبدّ بآخر تابع، وتتحوّل الشعارات النبيلة إلى أدوات ضغط سياسي في لعبة النفوذ الدولي.
الوعي الجديد: رفض الثنائيات الكاذبة
وسط هذه التعقيدات، بدأ جيل الشباب يطوّر وعيًا جديدًا يرفض الثنائية القديمة بين “النظام أو الفوضى”، وبين “الاستبداد أو الغرب”.
أصبح السؤال: كيف نؤسس نظامًا نابعًا من إرادتنا، لا يُعيد إنتاج التبعية القديمة؟
هذا الوعي، رغم تشتّته، هو أخطر ما يواجه المنظومة القائمة. لأنه لا يبحث عن “زعيم” بل عن شكل جديد للشرعية والمشاركة السياسية خارج قوالب الماضي.
الاحتجاجات كمرآة لنظام إقليمي مأزوم
كل دولة عربية تحاول معالجة الاحتجاجات داخل حدودها كأنها أزمة محلية، لكنها في الحقيقة تعبير عن أزمة نظام إقليمي كامل.
فالعجز عن بناء دولة مدنية متوازنة، والارتهان للاقتصاد الريعي، والاعتماد على الحماية الخارجية، هي مشكلات مشتركة تجعل من كل احتجاجٍ في بلدٍ ما ناقوس خطرٍ للجميع.
ومن هنا، يصبح الاحتجاج ليس فعلًا ضدّ سلطة محدّدة، بل ضدّ بنية سياسية ممتدة على مستوى الإقليم بأسره.
خاتمة
الاحتجاجات ليست نهاية النظام العربي، لكنها بداية وعي جديد يفرض على النظام أن يتغيّر أو يتهاوى ببطء.
الشباب في الشرق الأوسط لا يبحثون عن أوهام الديمقراطية الغربية، بل عن كرامة القرار، وسيادة الإرادة، وحقّ المشاركة في صناعة المصير.
وحين يصل هذا الوعي إلى مرحلة التنظيم الذاتي، سيتحوّل الاحتجاج من حدثٍ متكرر إلى تحوّلٍ تاريخيّ لا يمكن الرجوع عنه.