
غير أن الأخطر من ذلك هو أن الحرب لم تبقَ داخل السودان، بل تحوّلت إلى ساحة اختبار جديدة في الجغرافيا السياسية الإفريقية والعربية، حيث تُعاد هندسة الخرائط والمصالح، وتُختبر حدود النفوذ الدولي في واحدة من أهم بوابات القارة نحو البحر الأحمر.
أولاً: من نزاع داخلي إلى أزمة بنيوية
بدأت الحرب في أبريل 2023 بعد خلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، لكنّ جذورها تمتد إلى بنية الدولة نفسها: دولة قامت على توازن هشّ بين المؤسسة العسكرية، والمصالح القبلية، والاقتصاد الريعي.
ومع سقوط نظام البشير عام 2019، لم تُبنَ دولة مدنية، بل استُبدلت وصايةٌ بأخرى: سلطة انتقالية بلا مشروع، ومؤسسات أمنية تتنازع الشرعية بالسلاح لا بالقانون. وهكذا انفجر السؤال المركزي: من يملك تعريف “الدولة” في السودان؟
ثانياً: تحوّلات الميدان وملامح التكتيك الجديد
في النصف الثاني من 2024، بدأت القوات المسلحة السودانية (SAF) تستعيد زمام المبادرة في العاصمة ومحيطها، بينما غيّرت قوات الدعم السريع (RSF) تكتيكها من القتال المباشر إلى حرب البنية التحتية: ضرب الكهرباء والمياه، واستخدام المسيّرات لضرب مراكز القيادة.
أمّا في الغرب، فإقليم دارفور تحوّل إلى مسرح متعدّد الحروب، حيث يتقاطع القتال الأهلي مع صراع النفوذ القبلي والسيطرة على مناجم الذهب. بهذا المعنى، لم يعد السودان يعيش حرباً واحدة، بل شبكة حروبٍ متزامنة تشترك في هدف واحد: السيطرة على الموارد والشرعية.
ثالثاً: التداخل الجيوسياسي — السودان كساحة نفوذ متنازع
لم يكن الصراع في السودان معزولاً عن مصالح القوى الكبرى. بل على العكس، تحوّل البلد إلى عقدة في خريطة تنافسٍ دولي يعيد تعريف موازين القوى في إفريقيا.
1. الولايات المتحدة
تنظر واشنطن إلى السودان كعنصرٍ حيوي في أمن البحر الأحمر، وممراً استراتيجياً بين القرن الإفريقي وشمال إفريقيا.
أرادت تسوية تُبقي على توازن بين الجيش والمليشيا لتأمين مصالحها، لكنها فقدت التأثير مع تصاعد النفوذ الروسي والإماراتي، فاكتفت بالتحذيرات والدعوات الإنسانية.
وفي العمق، تخشى أمريكا من أن يتحول السودان إلى منصة لوجستية للصين وروسيا في الممر البحري الأهم بعد قناة السويس.
2. روسيا
تعمل موسكو وفق سياسة “التغلغل الهادئ”.
سعت منذ 2020 لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان، تمنحها موطئ قدم دائم في البحر الأحمر. ورغم تعطّل المشروع رسميّاً، فإنها عززت نفوذها عبر تجارة الذهب والسلاح مع فصائل مختلفة، في مسارٍ شبيه بتجربتها في مالي وإفريقيا الوسطى.
الهدف الروسي واضح: كسر الطوق الغربي وفتح منفذ استراتيجي لوجستي نحو القارة.
3. الصين
على النقيض من موسكو، تمارس بكين نفوذها عبر الاقتصاد لا السلاح.
فهي أكبر مستثمر في البنية التحتية السودانية منذ مطلع الألفية، وتعتبر السودان جزءاً من مبادرة الحزام والطريق.
تتبنى الصين مقاربة “الاستقرار مقابل التنمية”، وتحاول حماية استثماراتها من الفوضى، حتى لو تطلّب الأمر دعم أي طرف يضمن استمرار التدفق التجاري دون اكتراث بشكل الحكم.
رابعاً: السياسات الإقليمية — من وساطات إلى وصايات
1. مصر
ترى القاهرة في السودان عمقها الجنوبي الحيوي، وتخشى من تمدد الفوضى نحو النيل أو صعود قوى مسلحة غير منضبطة.
دعمها للجيش ليس خياراً أيديولوجياً بل ضرورة جغرافية لضمان استقرار الحدود وحماية المصالح المائية. لكنها، رغم ثقلها التاريخي، فقدت جزءاً من نفوذها لصالح المحور الخليجي.
2. السعودية والإمارات
يشترك البلدان في المصلحة العامة باستقرار البحر الأحمر، لكنهما يختلفان في أدوات المقاربة:
-
الإمارات ركزت على النفوذ الاقتصادي وتمويل فصائل عبر شبكات الذهب والتجارة، قبل أن تتراجع تحت الضغط الدولي.
-
السعودية تبنّت دور الوسيط السياسي عبر منصة جدة، محاولةً التوفيق بين القوى المتصارعة للحفاظ على أمن الممر البحري المرتبط مباشرة بمشروع “نيوم” واستقرار شمال غرب المملكة.
وبين هذين النهجين، يتّضح أن السودان أصبح ميدان تنافس ناعم بين المحورين الخليجيين: النفوذ المالي مقابل النفوذ السياسي.
3. تركيا
تلعب أنقرة دوراً أكثر تعقيداً.
فمنذ عهد البشير، عززت تركيا حضورها في السودان عبر اتفاقات اقتصادية وعسكرية، أهمها مشروع تطوير جزيرة سواكن على البحر الأحمر، الذي منحها منفذاً استراتيجياً نحو الممر البحري ذاته.
ومع اندلاع الحرب، حافظت تركيا على خطابٍ “وسطي” يدعو للحوار، لكنها في الواقع تعمل على حماية مصالحها البحرية والاقتصادية، وتُبقي خطوط اتصال غير معلنة مع الطرفين.
تركيا تدرك أن السودان بوابتها لإفريقيا، وأن أي فراغ فيه سيملؤه منافسوها الخليجيون أو الروس، لذلك تبني نفوذها بالتدرج الهادئ لا بالاصطفاف العلني.
4. دول الجوار الإفريقي
تشاد وجنوب السودان وإريتريا باتت كلها جزءاً من الأزمة.
تدفّق اللاجئين والسلاح يعيد رسم الخريطة الأمنية في الإقليم، فيما تستغل بعض هذه الدول الحرب كورقة ضغط سياسية للحصول على دعم دولي ومساعدات مالية.
خامساً: السودان كمرآة لمفهوم الوصاية الجديدة
كل هذه التفاعلات تُظهر أن السودان لم يعد يُدار من داخل حدوده، بل من خارجه.
القوى الكبرى تتعامل معه كـ“جغرافيا استراتيجية”، والقوى الإقليمية تتعامل معه كـ“ساحة نفوذ مؤقتة”.
وفي هذا المشهد، يغيب المشروع الوطني لصالح منطق الاستقرار الموجّه الذي يعني في حقيقته تثبيت الوصاية لا إنهاءها.
إنها وصاية جديدة لا تأتي بالدبابات بل بالعقود الاستثمارية، وبالوساطات التي تُعيد إنتاج الأزمة في شكل اتفاقات مؤقتة لا حلول جذرية.
سادساً: الخاتمة — بين استعادة الدولة وتفكيكها
ما يجري في السودان اليوم ليس مجرد حرب أهلية، بل عملية إعادة توزيع للسيادة بين أطراف دولية وإقليمية.
فإذا انتهت الحرب بانتصار أحد الطرفين، فذلك لا يعني عودة الدولة، بل انتقالها إلى طورٍ جديد من التبعية.
أما إذا استمر النزاع، فإن النتيجة الحتمية ستكون تقسيم السودان فعلياً إلى مناطق نفوذ، كلٌّ منها يُدار بوصاية مختلفة.
السودان إذن، ليس أزمة محلية، بل مرآة لسؤالٍ أكبر:
هل يمكن لدولةٍ أن تبقى سيّدة قرارها في عالمٍ تتقاطع فيه مصالح القوى قبل أن تنضج تجربتها الوطنية؟
تلك هي معركة السودان الحقيقية — معركة تعريف السيادة في زمنٍ لم يعُد فيه الاستقلال يعني الحرية، بل القدرة على الصمود في وجه من يريد إعادة صياغة خريطتك باسم “الاستقرار”.