حروب أسيا: الحرب الفيتنامية: سقوط الإمبراطوريات في غابة آسيا

صراع العالم على أرض واحدة

لم تكن الحرب الفيتنامية (1955–1975) مجرد صراع عسكري بين دولتين، بل كانت واحدة من أعقد وأطول حروب القرن العشرين، حيث التقت فيها الأيديولوجيات العالمية في ميدان واحد، واختُبرت فيها قدرة الولايات المتحدة على فرض نموذجها الليبرالي في مواجهة الموجة الثورية القادمة من الشرق.
لقد كانت الحرب التي كشفت حدود القوة الأمريكية، وأظهرت أن السيطرة على الشعوب لا تتحقق بالدبابات وحدها، وأن الشعارات الكبرى يمكن أن تغرق في وحل الأدغال الفيتنامية.

الجذور السياسية: من الاستعمار الفرنسي إلى الانقسام الوطني

كانت فيتنام قبل الحرب جزءًا من اتحاد الهند الصينية الخاضع للاستعمار الفرنسي. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، تصاعدت المقاومة الوطنية بقيادة هو تشي منه وحركته الشيوعية (الفيت منه)، التي أعلنت استقلال البلاد عام 1945.
رفضت فرنسا التخلي عن مستعمرتها، فاندلعت حرب الهند الصينية الأولى، التي انتهت عام 1954 بانتصار الفيت منه في معركة "ديان بيان فو"، وإبرام اتفاقية جنيف التي قضت بتقسيم فيتنام مؤقتًا عند خط العرض 17:

  • الشمال بقيادة هو تشي منه ونظام شيوعي مدعوم من الاتحاد السوفياتي والصين.

  • الجنوب تحت رعاية الولايات المتحدة وحكم نغو دينه ديم، الذي أسس جمهورية فيتنام الجنوبية ذات النظام الرأسمالي.

كان هذا التقسيم نواة الصراع القادم، إذ اعتبرت واشنطن أن سقوط الجنوب يعني تمدد الشيوعية في جنوب شرق آسيا وفق "نظرية الدومينو"، بينما رأى الشمال أن الوحدة الوطنية لا تُكتمل إلا بإسقاط النظام الموالي للغرب.

اشتعال الحرب: من مستشارين إلى جيش كامل

بدأت الحرب فعليًا في منتصف الخمسينيات حين دعم الشمال حركة التمرد المسلحة في الجنوب، المعروفة باسم الفيتكونغ، والتي خاضت حرب عصابات ضد حكومة سايغون المدعومة أمريكيًا.
في البداية، أرسلت واشنطن "مستشارين عسكريين" فقط، لكن سرعان ما تحولت المهمة إلى تدخل شامل بعد حادثة خليج تونكين عام 1964، حيث زُعم أن سفنًا فيتنامية هاجمت مدمرات أمريكية، فاستُخدم الحدث ذريعة لتفويض الرئيس جونسون بشنّ الحرب المفتوحة.

تحولت فيتنام بذلك إلى ساحة مواجهة عالمية:

  • أرسلت الولايات المتحدة أكثر من نصف مليون جندي، مستخدمة أعنف الأسلحة الجوية والكيماوية.

  • تلقت فيتنام الشمالية دعمًا مباشرًا من الصين والاتحاد السوفياتي بالسلاح والمستشارين.

  • الجنوب كان رهينة الانقسامات السياسية والفساد وضعف القيادة.

حرب الأدغال: المواجهة المستحيلة

خاضت واشنطن حربًا لم تفهم طبيعتها. فبدل الجيوش النظامية، واجهت قواتها مقاتلين يختفون بين القرى والغابات، يتحركون بخفة ويحظون بتأييد السكان المحليين. كانت الأدغال والمناخ والتضاريس كلها في صف الفيتناميين.
رغم التفوق الناري الأمريكي — من القصف الجوي الكثيف إلى استخدام العامل البرتقالي الذي دمّر مساحات شاسعة من الغابات — فإن الحرب النفسية والمعنوية كانت محسومة لصالح من يقاتلون على أرضهم ومن أجلها.
وفي المقابل، كانت صور الدمار والضحايا المدنيين تُبث يوميًا عبر الإعلام العالمي، لتتحول إلى وقود حركة احتجاج غير مسبوقة داخل الولايات المتحدة، هزّت الثقة في الحكومة ودفعَت الرأي العام للمطالبة بإنهاء الحرب.

فاتورة الحرب: أرقام دامية في أدغال آسيا

كانت الحرب الفيتنامية من أكثر النزاعات كلفة في التاريخ الحديث:

  • تجاوز عدد القتلى ثلاثة ملايين إنسان، معظمهم من المدنيين الفيتناميين.

  • فيتنام الشمالية والفيتكونغ فقدتا ما يزيد عن مليون جندي ومقاتل.

  • فيتنام الجنوبية تكبّدت أكثر من 250 ألف قتيل.

  • الولايات المتحدة خسرت نحو 58 ألف جندي، وأصيب أكثر من 300 ألف آخرين، مع آثار نفسية عميقة على الجنود العائدين.

  • كمبوديا ولاوس فقدتا عشرات الآلاف بسبب الغارات الأمريكية التي امتدت إلى أراضيهما لقطع خطوط الإمداد الشمالية.

على الرغم من هذه الخسائر المادية والبشرية، خرجت قوة عظمى من الحرب بلا نصر، بينما أعادت أمة صغيرة تعريف معنى المقاومة في وجه الإمبراطورية.

الانسحاب والانهيار: نهاية الوهم الأمريكي

في عام 1969، بدأ الرئيس ريتشارد نيكسون سياسة "الفتنمة"، أي نقل عبء الحرب تدريجيًا إلى الجيش الجنوبي مع سحب القوات الأمريكية.
وفي 1973، وُقعت اتفاقية باريس للسلام التي نصّت على وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الأجنبية. لكن الحرب لم تنتهِ فعليًا، إذ سرعان ما انهار الجنوب أمام تقدم الشمال، ودخلت سايغون في أبريل 1975، رافعة رايات الوحدة.
كانت مشاهد المروحيات الأمريكية وهي تقلع من سطح السفارة رمزية لانكسار الهيبة الأمريكية، وإعلان نهاية مرحلة من الغطرسة العسكرية.

ما بعد الحرب: فيتنام الموحدة تحت ظل الحزب الواحد

بعد الوحدة، أصبحت البلاد جمهورية فيتنام الاشتراكية بقيادة الحزب الشيوعي. رغم الدمار الهائل، بدأت مرحلة إعادة الإعمار وسط عزلة دولية خانقة، إلى أن تبنّت الحكومة في الثمانينيات سياسة "دوي موي" (التجديد)، التي فتحت الباب تدريجيًا للإصلاح الاقتصادي والانفتاح المحدود على العالم.
اليوم، تجمع فيتنام بين النظام السياسي الشيوعي والاقتصاد شبه السوقي، وتوازن بين علاقاتها مع الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة واليابان من جهة أخرى، في مفارقة تُظهر كيف تتبدل التحالفات حين تتغير المصالح.

القوى الدولية: صدى الحرب في النظام العالمي

كشفت الحرب هشاشة الهيمنة الأمريكية وأطلقت موجة مراجعات في السياسة الخارجية الغربية، إذ فقدت واشنطن ثقة حلفائها وبدأت مرحلة الانكفاء الجزئي قبل محاولة إعادة بناء صورتها في الشرق الأوسط لاحقًا.
أما الاتحاد السوفياتي والصين، فقد رأيا في النصر الفيتنامي انتصارًا رمزيًا للمعسكر الشيوعي رغم التنافس الخفي بينهما على النفوذ في هانوي.
بينما كانت أوروبا الغربية تبتعد تدريجيًا عن التبعية السياسية لواشنطن، وجد العالم الثالث في فيتنام رمزًا لمقاومة "الهيمنة الجديدة" بكل أشكالها.

تداعيات الحرب في السياق الراهن

في زمن التحولات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة، تعود فيتنام إلى الواجهة ليس كجبهة حرب، بل كحليف محتمل وورقة توازن في صراع النفوذ في آسيا.
فهي تقيم علاقات اقتصادية واسعة مع واشنطن، وتستضيف استثمارات غربية ضخمة، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على تنسيق سياسي وعسكري مع بكين وموسكو.
بهذا، تحولت فيتنام من رمز مواجهة إلى نموذج للبراغماتية السياسية، دولة خرجت من رماد الحرب لتتعامل مع العالم وفق ميزان القوة والمصلحة لا بالشعارات.

خاتمة: من رماد الحرب إلى توازن البقاء

الحرب الفيتنامية لم تكن مجرد معركة بين جيشين، بل نقطة انكسار في مسار القرن العشرين.
أسقطت أسطورة التفوق العسكري الأمريكي وأعادت تعريف مفهوم الاستقلال والسيادة في العالم الثالث.
بعد نصف قرن على سقوط سايغون، تظل فيتنام حاملة دروسًا قاسية: أن القوة وحدها لا تضمن النصر، وأن إرادة الشعوب حين تتجذر في الأرض أقوى من كل طائرات السماء.

سلسلة: حروب أسيا: صراع القمم الكبرى على النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.