حروب أسيا: الحرب الهندية وانقسام القارة: حين ولّدت الإمبراطورية أُممًا متنازعة

لم يكن انقسام الهند مجرّد حدثٍ سياسي عابر، بل زلزالًا تاريخيًا غيّر ملامح جنوب آسيا إلى الأبد. من رحم الاستعمار البريطاني خرجت ثلاث دول متنازعة: الهند، وباكستان، ثم بنجلاديش، بعد سلسلةٍ من الحروب التي لم تكن كلها عسكرية فحسب، بل اجتماعية ودينية وثقافية حملت بصمات القوى الكبرى التي صاغت موازين المنطقة منذ منتصف القرن العشرين.

الهند تحت التاج البريطاني: مهد السيطرة ومصنع الانقسام

منذ منتصف القرن التاسع عشر، أحكمت بريطانيا قبضتها على شبه القارة الهندية تحت مسمى "الراج البريطاني". كان هذا الكيان الاستعماري يضم شعوبًا متعددة الأعراق واللغات والأديان، من المسلمين والهندوس والسيخ والبوذيين، في مساحةٍ تمتد من كشمير شمالًا إلى بورما شرقًا.
لكن بريطانيا لم تحكم الهند بجيشها فقط، بل بسياسةٍ دقيقة من تفكيك البنية الاجتماعية عبر إذكاء الفوارق الدينية، وتقسيم النخب المحلية إلى ولاءات متعارضة، ليبقى المستعمر الحكم والضامن للوحدة الظاهرية.

مع مطلع القرن العشرين، بدأ الوعي الوطني يتصاعد، فظهرت حركات الاستقلال بقيادة المهاتما غاندي الذي دعا إلى العصيان المدني السلمي، ومحمد علي جناح الذي قاد مسلمي الهند تحت شعار إنشاء وطنٍ مستقلٍ للمسلمين في شبه القارة. كان التوتر الديني يتصاعد، والاحتقان الاجتماعي يتغلغل في القرى والمدن، حتى بات التقسيم نتيجةً حتمية أكثر منه خيارًا سياسيًا.

ولادة دولتين من رماد الإمبراطورية

عام 1947، ومع انسحاب بريطانيا من الهند، وُلدت دولتان جديدتان: الهند ذات الغالبية الهندوسية، وباكستان ذات الغالبية المسلمة، التي كانت بدورها مقسّمة جغرافيًا إلى شطرين يفصل بينهما أكثر من ألف ميل: باكستان الغربية (التي أصبحت اليوم باكستان) وباكستان الشرقية (التي ستصبح لاحقًا بنجلاديش).
أدى التقسيم إلى واحدةٍ من أكبر موجات النزوح في التاريخ الحديث — أكثر من 14 مليون إنسان انتقلوا قسرًا بين الدولتين الوليدتين، وسط مذابح وعمليات انتقام طائفية أودت بحياة ما لا يقل عن مليون شخص.

لم يكن الانقسام نابعًا من داخل الشعوب فحسب، بل كان مشفوعًا بإرادة بريطانية لإبقاء المنطقة في حالة عدم استقرار دائم، تضمن استمرار الحاجة إلى الوساطة الغربية وضبط التوازنات الإقليمية.

نزاعات ما بعد الولادة: كشمير كجرحٍ مفتوح

منذ اليوم الأول لاستقلالهما، اندلعت الحرب الأولى بين الهند وباكستان عام 1947 حول إقليم كشمير ذي الأغلبية المسلمة، الذي اختار حاكمه الهندوسي الانضمام إلى الهند رغم إرادة السكان.
تدخلت الأمم المتحدة حينها لفرض وقف إطلاق النار عام 1949، تاركةً الإقليم مقسومًا إلى جزأين — أحدهما تحت السيطرة الهندية والآخر تحت السيطرة الباكستانية — لكن الصراع ظلّ قائمًا ومفتوحًا على جولاتٍ جديدة من الحرب في الأعوام 1965 و1971.

كانت باكستان ترى في كشمير رمزًا لحق تقرير المصير الإسلامي، بينما اعتبرتها الهند قضية سيادية غير قابلة للنقاش. ومع كل جولةٍ من القتال، كانت واشنطن وموسكو تتنازعان النفوذ على طرفي النزاع — الأولى تميل إلى باكستان حليفها في الحرب الباردة، والثانية تدعم الهند كقوة موازنة في آسيا.

ولادة بنجلاديش: حين انقسم المنقسم

لم يكن الانقسام الأول كافيًا. ففي عام 1971، انفجر التناقض الداخلي في باكستان نفسها، حين تمرّد الإقليم الشرقي (بنجلاديش حاليًا) ضد سياسات التمييز الاقتصادي واللغوي والسياسي المفروضة من الغرب الباكستاني.
أعلنت بنجلاديش استقلالها، فاندلعت الحرب بين الجيش الباكستاني وقوات التحرير البنغالية، التي تلقت دعمًا مباشرًا من الهند بقيادة إنديرا غاندي.
دخلت القوات الهندية الحرب رسميًا في ديسمبر 1971، فحُسمت المعركة خلال أسابيع بانهيار القوات الباكستانية في دكا واستسلام أكثر من 90 ألف جندي باكستاني — أكبر استسلام عسكري منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي 16 ديسمبر، وُلدت جمهورية بنجلاديش الشعبية من رحم الدم والدموع، لتُصبح الدولة الثالثة المنفصلة عن وحدة شبه القارة القديمة.

ميزان القوى الدولية في الحرب

كانت الحرب البنغالية ميدانًا جديدًا لتنافس القوى الكبرى. دعمت الاتحاد السوفياتي الهند عسكريًا وسياسيًا باتفاقية صداقة عام 1971، بينما مالت الولايات المتحدة والصين إلى دعم باكستان لمواجهة النفوذ السوفياتي المتزايد في المنطقة.
ورغم الحياد المعلن في الأمم المتحدة، كانت الحرب في الحقيقة انعكاسًا لمعادلة أوسع: الشرق يدعم حركات التحرر الوطني، والغرب يسعى لضبط مسارها بما لا يضر بمصالحه الإقليمية.

الخسائر والآثار الإنسانية

بلغت خسائر حرب 1947–1949 نحو 1500 قتيل، بينما تجاوزت خسائر حرب 1965 نحو 7 آلاف قتيل بين الجانبين.
أما حرب 1971 فكانت الأعنف، إذ قُتل أكثر من 3 ملايين بنغالي وفق التقديرات البنغالية، ونحو 90 ألف أسير باكستاني أُسروا في نهاية الحرب، إضافةً إلى 10 ملايين لاجئ فرّوا إلى الهند.
تُعدّ هذه الحرب من أكبر الكوارث الإنسانية في القرن العشرين، إذ امتزج فيها الصراع القومي بالديني، وامتد أثرها في الذاكرة الجماعية للشعوب الثلاث حتى اليوم.

تداعيات الانقسام وملامح المشهد الراهن

خرجت الهند من تلك الحروب بثقةٍ متزايدة في موقعها الإقليمي كقوة آسيوية صاعدة، وبدأت تتجه نحو سياسات عدم الانحياز التي أسسها جواهر لال نهرو.
أما باكستان فغاصت في أزماتٍ سياسية داخلية، ما مهّد لاحقًا لهيمنة الجيش على الحكم وتنامي النفوذ الديني والسياسي في بنية الدولة.
أما بنجلاديش، فرغم بدايتها المأساوية، استطاعت أن تتحول تدريجيًا إلى دولة مستقرة نسبيًا، ذات اقتصادٍ نشط قائم على الصناعات والخدمات، وإن بقيت تعاني من آثار الحرب والانقسام حتى اليوم.

مآلات التاريخ المفتوح

لم يكن التقسيم الهندي مجرد إعادة رسمٍ للحدود، بل تأسيسًا لانقسامٍ دائمٍ في الوجدان السياسي لشعوبٍ كانت يومًا أمةً واحدة.
تظلّ كشمير اليوم جرحًا مفتوحًا بين الهند وباكستان، بينما لا تزال ذاكرة الانفصال تُثقل وجدان جنوب آسيا، وتذكّر بأن الاستعمار لا يرحل حين يخرج، بل حين تُشفى الجغرافيا من آثاره.

سلسلة: حروب أسيا: صراع القمم الكبرى على النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.