
مثلما أظهرت الحرب السوفياتية حدود القوة الإمبراطورية، كشفت الحرب الأمريكية مرة أخرى صعوبة فرض السيطرة على بلدٍ يعيش وفق قوانينه الجغرافية والثقافية الخاصة، رغم التفوق التكنولوجي والعددي للقوات الغازية.
السياق السياسي قبل الغزو
في نهاية التسعينيات، كانت أفغانستان قد خرجت من الحرب السوفياتية، لكنها دخلت في صراع داخلي دموي بين المجاهدين السابقين، حتى سيطرت حركة طالبان على معظم أراضي البلاد بحلول 1996، وأعلنت إمارة أفغانستان الإسلامية.
تمكنت طالبان من فرض نظام صارم مستند إلى تفسيرها الخاص للشريعة، بينما وفرت ملاذًا آمنًا لـ القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، الذي خطط ونسّق هجمات 11 سبتمبر من الأراضي الأفغانية.
كانت أفغانستان قبل الغزو الأمريكي دولة شبه فاشلة، غير معترف بها دوليًا إلا من باكستان والسعودية، وعاجزة عن حماية نفسها من التدخل الخارجي.
التدخل الأمريكي والتحالف الدولي
في أكتوبر 2001، أطلقت الولايات المتحدة عملية حرية دائمة (Operation Enduring Freedom) بالتنسيق مع حلفاء الناتو، مستهدفة طالبان والقاعدة.
كان التدخل مزيجًا من الضربات الجوية المكثفة والدعم لقوات التحالف الشمالي الأفغاني، وهي مجموعة من الميليشيات الأفغانية المعارضة لطالبان، مدعومة بالسلاح والمستشارين الأمريكيين.
دخلت قوات أمريكية وبريطانية وكندية وألمانية وغيرهم لتأمين المدن والمطارات، بينما استمرت المقاتلات في شن غارات على قواعد طالبان والقاعدة.
لم يكن الهدف مجرد هزيمة طالبان عسكريًا، بل إعادة تشكيل الدولة الأفغانية وفق تصور أمريكي: نظام ديمقراطي مركزي، مؤسسات حديثة، وإنهاء دور الجماعات المسلحة كسلطة بديلة.
حرب العصابات المستمرة
تمامًا كما واجه السوفيات، واجهت الولايات المتحدة حربًا غير تقليدية.
اعتمدت طالبان والقاعدة على تكتيكات حرب العصابات، الكمائن، العبوات الناسفة، واستغلال التضاريس الجبلية الشاهقة، فضلاً عن دعم بعض القبائل المحلية.
على الرغم من التفوق العسكري الأمريكي، فإن السيطرة على القرى والمناطق الريفية كانت مستحيلة، مما حول الحرب إلى صراع طويل الأمد، يكاد يكون حرب استنزاف نفسية أكثر من كونها مواجهة مباشرة.
الخسائر والأثمان الإنسانية
بلغت تكلفة الحرب الإنسانية والبشرية هائلة:
-
الجنود الأمريكيون وحلفاؤهم: قُتل نحو 2,400 جندي أمريكي، وأصيب أكثر من 20 ألفًا، مع آلاف من الجنود الآخرين من حلفاء الناتو.
-
المدنيون الأفغان: تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 100 ألف مدني مباشرة خلال العمليات العسكرية، بالإضافة إلى ملايين المشردين داخليًا وخارجيًا.
-
الجيش الأفغاني الجديد والتحالف الشمالي: تكبد خسائر كبيرة تجاوزت عشرات الآلاف من المقاتلين.
كما استنزفت الحرب البنية التحتية بالكامل، وحوّلت أفغانستان مرة أخرى إلى بلدٍ مُدمّر، يواجه صعوبات اقتصادية واجتماعية عميقة، رغم التدخل الدولي.
الانسحاب الأمريكي وعودة طالبان
مع مرور السنوات، أصبحت الحرب مستنزفة للموارد الأمريكية والدولية، وتفاقمت المقاومة المسلحة، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية.
في 2021، وبعد عشرين عامًا من الغزو، أعلنت الولايات المتحدة انسحابها الكامل، ليتكرر المشهد الرمزي كما حدث مع السوفيات عام 1989: سقوط العاصمة كابول دون مقاومة حقيقية، وعودة طالبان إلى السلطة، تاركة خلفها دولة هشّة ومجتمعًا منهكًا.
القوى الدولية وسيناريو العالم بعد الغزو
الغزو الأمريكي أعاد صياغة المشهد الجيوسياسي في آسيا الوسطى:
-
الولايات المتحدة أرادت تعزيز نفوذها في المنطقة، لكن الانسحاب أثبت محدودية القدرة على السيطرة طويلة الأمد.
-
الصين وروسيا، كقوتين إقليميتين، تابعتا الأحداث عن كثب، مستفادتين من ضعف النفوذ الأمريكي، ومستعدتين لاستثمار الفراغ السياسي لاحقًا.
-
دول الجوار، خاصة باكستان وإيران، لعبت أدوارًا مزدوجة في دعم طالبان أحيانًا، أو العمل مع الحكومة الأفغانية السابقة أحيانًا أخرى، بما يعكس تعقيد المصالح في المنطقة.
إرث الحرب الأمريكية: دروس من الماضي
الغزو الأمريكي لأفغانستان يبرز تكرارًا لدروس الحرب السابقة:
-
التفوق العسكري لا يضمن النصر السياسي.
-
القوة الخارجية تواجه مقاومة شعبية متجذرة في الأرض والثقافة.
-
الفوضى الطويلة تولّد بيئة لتطرفٍ جديد، كما حدث لاحقًا مع داعش وجماعات أخرى.
وبالتالي، تعكس أفغانستان اليوم استمرار دائرة النزاعات في المنطقة، بين القوى الكبرى، والحركات المحلية، والمصالح الجيوسياسية العابرة للحدود، لتظل الأرض الأفغانية مختبرًا دائمًا للسياسات الكبرى، وعينًا صافية على حدود القوة والإرادة.