حروب أسيا: الحرب الأفغانية السوفياتية: نهاية إمبراطورية وبداية فوضى العالم

كانت أفغانستان دائمًا قلب آسيا النابض وممرّها التاريخي بين الشرق والغرب، لكنها في نهاية السبعينيات تحوّلت إلى ساحةٍ مكشوفة لحربٍ غير معلنة بين القوتين الأعظم. لم تكن حربًا كلاسيكية بقدر ما كانت حربًا على هوية المنطقة، وعلى روحها السياسية والدينية، في زمنٍ كانت فيه الحرب الباردة تتنفس آخر أنفاسها الساخنة.

المشهد قبل الحرب: بلدٌ في صراعٍ داخلي

قبل الغزو السوفياتي، كانت أفغانستان مملكةً محافظة يحكمها الملك ظاهر شاه حتى عام 1973، حين أطاحه ابن عمه محمد داود خان بانقلابٍ أعلن فيه الجمهورية.
لكن الانقلاب فتح الباب لصراعٍ أيديولوجي حاد بين القوى القومية والإسلامية والشيوعية.
وفي عام 1978، استولت الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني (الشيوعي) على الحكم بانقلابٍ دموي عُرف بـ"ثورة ثور"، وأعدم داود خان وأسرته.
بدأت الحكومة الجديدة بتنفيذ إصلاحاتٍ راديكالية: تأميم الأراضي، فرض التعليم المختلط، وتقويض سلطة القبائل والعلماء — ما أثار تمرّدًا واسعًا في أنحاء البلاد.

الغزو السوفياتي: من الوصاية إلى الاحتلال

في ديسمبر 1979، قرر الاتحاد السوفياتي التدخل عسكريًا دعمًا للحكومة الشيوعية التي بدأت تفقد السيطرة.
دخل أكثر من 100 ألف جندي سوفياتي الأراضي الأفغانية، وتم اغتيال الرئيس حفيظ الله أمين واستبداله بـبابرك كارمل الموالي لموسكو.
تحولت كابول إلى مدينةٍ تحت الحماية السوفياتية، وبدأت القوات الغازية عملياتٍ واسعة ضد المقاتلين المحليين الذين أُطلق عليهم لاحقًا اسم المجاهدين.

لكن السوفيات وجدوا أنفسهم في مأزقٍ شبيه بما واجهته أمريكا في فيتنام: تضاريس وعرة، عدوّ غير مرئي، وشعبٌ يقاتل بعقيدةٍ تتجاوز السياسة.

دعم الغرب وتمدد الحرب الباردة في الجبال

رأت الولايات المتحدة في الغزو السوفياتي فرصةً ذهبية لاستنزاف خصمها التاريخي دون الدخول المباشر في الحرب.
بدأت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) تنفيذ أكبر عملية دعمٍ سرّي في تاريخها، عبر تزويد المجاهدين بالمال والسلاح، بتمويلٍ سعودي وإشرافٍ باكستاني، في ما عُرف لاحقًا بـ"عملية الإعصار (Operation Cyclone)".
كانت باكستان، بقيادة الجنرال ضياء الحق، القاعدة الخلفية للحرب، حيث تدرّب المقاتلون وتدفّقت الأسلحة عبر حدودٍ جبليةٍ يصعب ضبطها.

أما على الجانب الآخر، فقد وجدت موسكو نفسها تخوض حربًا استنزافية بلا أفقٍ سياسي، في بيئةٍ معادية ثقافيًا وجغرافيًا، وسط تصاعدٍ عالمي لخطاب "الجهاد ضد الشيوعية" الذي صبغ الحرب بلونٍ عقائدي واضح.

المجاهدون وحرب الأنفاق والجبال

تنوّعت فصائل المقاومة الأفغانية بين قومية وإسلامية، من أبرزها فصائل أحمد شاه مسعود في الشمال وجلال الدين حقاني في الشرق وقلب الدين حكمتيار في كابول.
اعتمدوا تكتيكات حرب العصابات: نصب الكمائن، تفجير القوافل، واستخدام شبكةٍ هائلة من الأنفاق في جبال تورا بورا.
في منتصف الثمانينيات، قلب إدخال صواريخ ستينغر الأمريكية المحمولة على الكتف موازين القوة، إذ أصبح بإمكان المقاتلين إسقاط الطائرات السوفياتية والمروحيات بسهولة.

الخسائر والأثمان البشرية

استمرت الحرب قرابة عشر سنوات، كانت كافية لتدمير البنية التحتية لأفغانستان وتحويلها إلى أنقاض.
قُتل نحو 15 ألف جندي سوفياتي، وجُرح أكثر من 35 ألفًا، فيما فقدت أفغانستان ما يزيد على مليون مدني، وتشرد نحو خمسة ملايين لاجئ إلى باكستان وإيران.
كما أُبيدت قرى بأكملها، وامتلأت الجبال بالألغام التي استمرت تقتل المدنيين لعقودٍ بعد انتهاء الحرب.

الانسحاب السوفياتي وسقوط الإمبراطورية

في عام 1986، ومع تولي ميخائيل غورباتشوف السلطة في موسكو، بدأ السوفيات يدركون عبث الحرب. أعلن غورباتشوف رغبته في "إنهاء النزيف الأفغاني"، وتم توقيع اتفاقيات جنيف عام 1988، التي نصت على انسحاب القوات السوفياتية تدريجيًا.
وفي فبراير 1989، خرج آخر جندي سوفياتي من أفغانستان عبر جسر "الصداقة" على نهر آمو، في مشهدٍ رمزي لنهاية مرحلةٍ كاملة من التاريخ السوفياتي.
لم يمض وقت طويل حتى انهار الاتحاد السوفياتي نفسه عام 1991، لتبقى أفغانستان غارقة في حربٍ أهلية جديدة بين فصائل المجاهدين، سرعان ما ستفرز حركة طالبان في منتصف التسعينيات.

توازن القوى وتبدّل المشهد العالمي

كانت الحرب الأفغانية السوفياتية آخر اختبارٍ عسكري مباشر للحرب الباردة. خرجت الولايات المتحدة منتصرة دون أن تخوض الحرب بنفسها، فيما تلقى الاتحاد السوفياتي ضربةً معنوية وسياسية أنهت طموحه الإمبراطوري.
لكن النصر الأمريكي كان قصير الأمد؛ إذ أفرزت الحرب بيئةً مضطربة أنتجت حركاتٍ مسلحة عابرة للحدود، ستعود لاحقًا لتقلب المعادلات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين دخلت أمريكا نفس الأرض التي سقط فيها خصمها السابق.

إرث الحرب: من السقوط إلى الدائرة المغلقة

لم تنتهِ الحرب بخروج السوفيات، بل بدأت مرحلةٌ جديدة من الفوضى التي ستدوم عقودًا.
تشتت المجاهدون إلى فصائل متناحرة، وانهار مفهوم الدولة، وتحولت أفغانستان إلى فراغٍ سياسي أصبح لاحقًا محور صراعاتٍ دولية جديدة.
كانت تلك الحرب إذًا ليست فقط نهاية الاتحاد السوفياتي، بل أيضًا بداية عالمٍ ما بعد الحرب الباردة، حيث لم تعد الحروب تُخاض باسم الإمبراطوريات، بل باسم الأمن، والإرهاب، والديمقراطية.

سلسلة: حروب أسيا: صراع القمم الكبرى على النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.