
من بين أكثر الشعوب التي عبرت التاريخ بمرونة ودهاء ثقافي، يبرز الفرس.
أمةٌ عرفت المجد الإمبراطوري، ثم الانكسار أمام جيوش العرب، ثم أعادت تشكيل نفسها داخل حضارة مناقضة، حتى أصبحت اليوم دولة لها طموح نووي وحداثة مشوهة بهوية مزدوجة.
لكن ما سر هذا البقاء؟
كيف تحوّلت نار زرادشت إلى عمائم قم؟
هل اختفى الفرس أم أعادوا تدوير هويتهم في قالب جديد؟
وهل إيران اليوم هي الامتداد الطبيعي لتلك الإمبراطورية القديمة، أم نفيٌ لها بمساحيق التاريخ؟
1. البداية: إمبراطورية على ظهر الطقوس
نشأت الحضارة الفارسية قبل أكثر من 2500 سنة، في قلب هضبة إيران، مع الدولة الأخمينية (550 ق.م) بقيادة كورش الكبير.
كانت حضارة طقسية شديدة الرمزية، قائمة على ثنائية "الخير والشر"، وفق تعاليم زرادشت، حيث النور الإلهي (أهورا مزدا) يقاتل قوى الظلام (أهريمان).
لكن تلك الطقسية لم تمنع البراغماتية:
سمحت الإمبراطورية الفارسية للأديان الأخرى بالبقاء، شريطة الخضوع السياسي، فكان الدين أداة شرعنة لا قهر مباشر.
2. السقوط أمام فكرة لا سيف
حين دخل المسلمون بلاد فارس في القرن السابع، لم يسقط الفرس فقط أمام جيوش الخلافة، بل أمام منظومة فكرية مناقضة:
دين التوحيد الصارم، بلا طقوس نارية، ولا كهنوت وسيط، ولا أرستقراطية دينية.
انكسر الهرم الزرادشتي، لكن الفرس لم يذوبوا.
بل على العكس، بدأوا عملية بطيئة لترويض الفاتحين:
دخلوا الإسلام، وبدأوا يضخون فيه رؤيتهم الخاصة، فأسسوا علومًا، ونسجوا سرديات، وظهر بينهم من يعيد للعقل الإيراني دور "المهندس الحضاري" في بنية الإسلام.
3. من الإسلام إلى التشيّع: استعادة الطقوس بلون مختلف
لم يكن التشيّع محض انحراف ديني، بل كان – في جانب منه – وسيلة حضارية لإعادة تشكيل الفارسية داخل الإسلام.
التشيع السياسي سمح بإحياء الكهانة، والطقوس، والتراتبية، والبكائيات، ومكانة الإمام المعصوم.
كلها عناصر قريبة من الوجدان الزرادشتي، مع إسقاطات رمزية على مأساة كربلاء، ودم الحسين بدل نار زرادشت.
الفرس بذلك لم "يتخلّوا" عن ماضيهم، بل أعادوا إنتاجه بلغة إسلامية.
4. الدولة الصفوية: لحظة الميلاد الثاني
في القرن السادس عشر، أسس إسماعيل الصفوي أول دولة "شيعية" بوضوح سياسي.
وهنا كانت المفارقة: لأول مرة منذ سقوط الأخمينيين، تعود الفارسية كهوية رسمية داخل كيان سياسي مستقل.
اللغة الفارسية عادت، والمذهب الشيعي فُرض، وأُنتجت نخبة جديدة تسكن التاريخ الشيعي، لكنها تغذّي الطموح القومي الفارسي.
5. إيران الحديثة: دولة بثلاثة وجوه
مع القاجاريين ثم البهلويين، دخلت إيران مرحلة الحداثة السياسية، لكنها لم تتخل عن شعورها بالتميز الحضاري.
ومع الثورة الإسلامية (1979)، اكتملت الحلقة:
دولة دينية بطقوس شيعية، بلغة قومية فارسية، وخطاب إمبراطوري مضمَر.
إيران اليوم هي فارس بثوب إسلامي، وعقل صفوي، وطموح قومي، وأدوات حداثية.
إنها كائن تاريخي مركّب، يبتلع خصومه بفائض المعنى، ويعيش في قلب التناقض.
6. هل اختفى الفرس أم تسللوا؟
الفرس لم يُهزَموا، بل تراجعوا خطوة ليعيدوا التشكُّل.
تركوا مركز المشهد، ودخلوا في قلب الدين الذي غزاهم، ثم أعادوا هندسته، ليخرجوا في النهاية بشيء "إسلامي اسميًا... فارسي فعليًا".
وما الدولة الإيرانية اليوم إلا نتاج هذا التحول العبقري:
بقاء بدون صدام، وهوية مزدوجة لا يمكن تفكيكها بسهولة.
خلاصة: فارس... من نار إلى نووي
الحضارات لا تموت دائمًا، بل تتقمّص.
والفرس هم سادة هذا الفن:
من زرادشت إلى الحسين،
من داريوس إلى خامنئي،
من النار المقدسة إلى مفاعلات آراك.
ما تغيّر هو الشكل، أما الجوهر... فصامد خلف العيون الذكية، والعمائم الثقيلة.