الحضارات الباقية: الصين: لماذا صمدوا واندثر الفينيقيون والفراعنة؟

قراءة تحليلية في سرّ البقاء وسُنن الاندثار .. من بين عشرات الحضارات العظيمة التي عرفها التاريخ، صمدت حضارة واحدة بوجه الأعاصير، وتشبثت بجذورها رغم تعاقب القرون والعروش والمحن: إنها الحضارة الصينية.
لكن السؤال المحوري هنا ليس تمجيدًا، بل استفهامٌ فكري:
لماذا استمرّ الصينيون كحضارة حيّة منذ آلاف السنين، بينما اندثرت أمم كالفينيقيين، والفراعنة، والكلدانيين، والأشوريين؟
ما الذي يجعل أمةً "تتصل بذاتها"، بينما أخرى تنقطع وتتلاشى؟ هل هو التفوق العسكري؟ أم الموارد؟ أم أن البقاء له منطقٌ آخر؟

نحاول هنا تفكيك هذه الظاهرة، بعيدًا عن السرديات المدرسية الجافة، وبمنهج يفضح الخطوط العميقة لا السطح الظاهر.


1. الحضارة أوسع من الدولة

غالبًا ما تُربط الحضارات بالدول التي مثّلتها، فإذا سقطت الدولة، سقطت معها حضارتها. هكذا اندثرت حضارات كالفراعنة والكلدان، لأنها كانت أنظمة سلطوية مغلقة، ارتبطت فيها الهوية بالحاكم، والمعرفة بالمعبد، والقوة بالعرش.

أما الصين، فكانت الاستثناء.
الدولة فيها تغيّرت مرارًا (أسرة هان، تانغ، سونغ، منغ، تشينغ...)، لكنها لم تكن جوهر الحضارة، بل مجرد وعاء متبدل. ظلت القيم والفكر والفنون واللغة أعمق من السلطة، وبالتالي نجا الجوهر حتى حين تفكك الهيكل.


2. اللغة كذاكرة قومية حيّة

ما لا يدركه كثيرون أن بقاء اللغة يعني بقاء الذاكرة الجمعية.
اللغة الصينية – رغم تعقيدها – لم تنقطع، بل بقيت حاملة لحكمتها، وأمثالها، ونصوصها القديمة، في حين اندثرت لغات شعوب كثيرة، فتبعها ضياع المعنى.

الفينيقيون مثلًا، ساهموا في اختراع الأبجدية، لكن لغتهم لم تُكتب بها ذاكرة حية ممتدة، وذابت مع ذوبانهم في شعوب المتوسط. أما المصريون، فقد حُجزت حضارتهم في النقوش المقدسة، ولما سقط الكاهن، ضاعت الرموز، وجاءت لغات أخرى لتسدل الستار.


3. الوعي القومي العميق والمتماسك

ليس المقصود هنا القومية السياسية الحديثة، بل الشعور الحضاري بالذات.
الصينيون آمنوا منذ القدم أنهم "أمة وسطى" (Zhong Guo)، وأن العالم يدور حول ثقافتهم، لا العكس. هذه المركزية الذاتية صنعت مناعتهم ضد الذوبان، رغم تعرضهم لغزوات التتار، والاستعمار الأوروبي، والحرب الأهلية، والثورة الشيوعية.

بالمقابل، كثير من الشعوب القديمة لم تطور تصورًا ذاتيًا راسخًا كهذا، بل كانت منفتحة حد التلاشي، تذوب سريعًا حين تُخترق.


4. التكيف من دون الانسلاخ

واحدة من أعظم سمات الحضارة الصينية هي قدرتها على التكيف مع المستجدات دون فقدان الذات.
حين جاءت البوذية من الهند، لم تتبناها الصين كما هي، بل أعادت تشكيلها بنكهتها الخاصة. وعندما تبنت الشيوعية في القرن العشرين، لم تمحُ جذور الكونفوشيوسية، بل تعايشت معها بخليط فريد.

أما حضارات أخرى، فحين صُدمت بغزو فكري أو عسكري، إما انكمشت وتصلبت حتى تكسرت، أو انفتحت كليًا حتى انحلت.


5. البيئة الجغرافية والديموغرافية

الصين حضارة قائمة على الزراعة والاستقرار، لا على التجارة العابرة أو المرافئ.
فالفينيقيون – رغم عبقريتهم البحرية – كانوا حضارة متنقلة، تعتمد على الموانئ، وسرعان ما تذوب حين تفقد التحكم.
بينما استقرت الصين في بيئة خصبة شاسعة، تكاثر فيها السكان، واستمرت الزراعة، واستمر معها نمط الحياة والعقل.


6. الفلسفات المؤسسة: الكونفوشيوسية والطاوية

بعكس كثير من الحضارات التي ارتبطت بألوهية الحاكم، أو أسرار الكهنة، بنت الصين منظومتها الفكرية على فلسفات دنيوية عملية:
الكونفوشيوسية، التي ركزت على الأخلاق، والعائلة، والتراتبية، والطاوية، التي دعت إلى التوازن مع الطبيعة.
هذه النظم أنتجت تماسكًا داخليًا لا يعتمد على قوة الجيش أو الكهنة، بل على "المعنى".

والمعنى حين يُترسخ في الحياة اليومية، يصبح عصيًا على السقوط.


الخلاصة: حين تكون الحضارة شعورًا لا بناءً

الحضارات التي صمدت ليست هي التي شيّدت أعظم المعابد، بل التي صنعت أعمق المعاني.
الصينيون لم ينجوا لأنهم أقوى، بل لأنهم أكثر اتصالًا بذاتهم.
أما الفراعنة والفينيقيون والكلدانيون، فرغم عظمتهم، كانت حضاراتهم مرتبطة بكيانات ظرفية، أو طقوس سلطوية، وحين تغير الظرف، انقطعت السلسلة.

ليس السؤال إذن: من بنى أكثر؟
بل: من فهم ذاته أعمق؟


سلسلة: الحضارات الباقية: كيف تدفن الشعوب في التاريخ وتنجو الافكار

مقالات في السلسلة : الصين | الفرس | الروم | الهند | الترك | اليابان
+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.