الروم : من جمهورية السيف إلى إمبراطورية الصليب

كيف بُعثت روما في ألف وجه ووجه؟
 
حين نسمع "الروم" يتبادر إلى الذهن شعب مغرق في الوثنية، أو إمبراطورية توسعية، أو مسيحية سياسية، أو حرب طويلة مع المسلمين. لكن الحقيقة أعقد من ذلك بكثير. فروما لم تكن مجرد دولة، بل نموذجًا للهيمنة الثقافية، تنكّر بأقنعة لا حصر لها. من السيف إلى القانون، ومن القيصر إلى البابا، ومن المسيحية الأرثوذكسية إلى العلمانية الغربية...
فمن هم الروم؟ وكيف تمددت حضارتهم بعد سقوطهم؟ ومن يلبس رداءهم اليوم؟


1. البداية: جمهورية بالسيف وقانون بالغريزة

ولدت روما كجمهورية عسكرية (509 ق.م)، توسعت تدريجيًا حتى أكلت ضفاف المتوسط.
لم تكن دولة فلسفة كالإغريق، بل دولة مؤسسات وقوانين وقوة تنفيذ.
قدّست النظام، واحتقرت الفوضى، ورفعت شعار: "سلام روما هو سلام العالم"، لكنه كان سلامًا فوق جثث الشعوب.


2. من الجمهورية إلى الإمبراطورية: حين يصبح القيصر إلهًا

مع يوليوس قيصر، ثم أوغسطس، تحوّلت الجمهورية إلى إمبراطورية،
وصار الحاكم يجسّد الدولة، بل يُعبد ضمنًا.
ومع هذا التغير، بدأت روما تفكر في الخلود:
لم تعد مجرد قوة عسكرية، بل أصبحت أيديولوجيا سلطوية، ترى في نفسها مركزًا للعالم، ومصدّرةً للقانون والمدنية.


3. صدمة المسيحية: من طغيان السيف إلى توحيد المعبد

عندما ظهرت المسيحية في فلسطين، واجهتها روما بالقمع والصلب.
لكن الدين الجديد ظل يتمدد داخل الطبقات الدنيا، حتى قرر الإمبراطور قسطنطين أن لا يقاومه، بل يستثمره.

هنا تحوّلت روما جذريًا:
أصبحت المسيحية الديانة الرسمية، وتحولت الكنيسة إلى ذراع روحي للإمبراطورية.

لكن هل كان هذا إيمانًا؟
أم إدراكًا عميقًا بأن الدين أقوى من الجيش إذا استُخدم بحكمة؟


4. الانقسام الكبير: من روما واحدة إلى رومين

في 395م، انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين:

  • غربية (مركزها روما، تتكلم اللاتينية)
  • شرقية (مركزها القسطنطينية، تتكلم اليونانية)

سقطت الغربية سريعًا بيد قبائل الشمال (476م)،
لكن الشرقية – التي نُسميها "بيزنطة" – صمدت لألف عام.


5. بيزنطة: الوريث الذي أكل لحم الأب

بيزنطة لم تكن "روما" فقط، بل كانت محاولة لتقديس الإمبراطورية:
إمبراطور مقدّس، كنيسة مستقلة، طقوس باهظة، بيروقراطية صارمة، وهوية مسيحية أرثوذكسية ترى نفسها حامية الحقيقة.

لكنها كانت ضعيفة عسكريًا، مشوشة سياسيًا، فانهارت على يد العثمانيين عام 1453.


6. من يرث الروم؟

هنا يبرز سؤال: من يرث الروم بعد سقوطهم؟

ثلاث قوى ادعت هذا الميراث:

  • الكنيسة الكاثوليكية في روما: التي نصّبت البابا "نائبًا للمسيح" وحاميًا لتراث القيصرية.
  • الإمبراطورية الروسية لاحقًا: التي أعلنت موسكو "روما الثالثة"، بعد سقوط الأولى (روما) والثانية (بيزنطة).
  • الغرب العلماني الحديث: الذي تبنى القانون الروماني، والفكر السياسي الروماني، وحتى النموذج الجمهوري الروماني (كما في فرنسا وأمريكا).


7. روما اليوم: حضارة بلا معبد

هل اختفت روما؟
أبدًا.
إنها تعيش في:

  • القانون الدولي الذي يستمد جذوره من "القانون الروماني".
  • المدنية الغربية التي ترى نفسها معيارًا لكل العالم (كما كانت روما).
  • اللغة الدبلوماسية (اللاتينية ظلّت لغة الكنيسة لقرون).
  • العمارة، الهندسة، النموذج الجمهوري، الرموز... كلها مستنسخة من الإرث الروماني.

حتى أمريكا الحديثة تُقدِّم نفسها كـ"جمهورية رومانية جديدة" بحماية عالمية.


8. خلاصة: الروم... مَن لا يُرى لكن يُشعَر به

الروم ليسوا شعبًا فقط، بل بنية تفكير سياسية ودينية وقانونية.
قد يسقط قصرهم، لكن نموذجهم يستمر في عقول الأمم.
إنهم روح الإمبراطورية حين تلبس قناع المدنية.
وهم اليوم أقرب إلينا مما نعتقد... في لغتنا، وقوانيننا، وأنظمتنا، وحتى في طريقة تفكيرنا في "العالم".


مقالات في السلسلة : الصين | الفرس | الروم | الهند | الترك | اليابان
أحدث أقدم
🏠