بقايا دفء: حب مستحيل: لماذا نعشق من لا يمكننا الوصول إليه؟

تحليل نفسي وفلسفي لرغبة الإنسان في ما لا يملكه

في كلّ قلب بشريّ، مساحة خفيّة لا تمتلئ أبدًا، ولو اجتمع لها كلُّ ما هو ماديّ ومحسوس. إنها مساحة الرغبة: ذلك الشعور الغامض الذي لا يتوق دائمًا إلى ما نملكه، بل غالبًا إلى ما يُمنع عنّا، أو يظل بعيدًا، أو مستحيلًا.

لماذا نعشق من لا يمكننا الوصول إليه؟ لماذا تأسرنا صورةُ من لا يعرف بوجودنا؟ أو من لا يمكننا العيش معه لأسبابٍ خارجة عن الإرادة؟
هل الحب حقًا شعور تجاه الآخر، أم أنه مرآة لحاجاتنا التي لم تُشبع؟

الرغبة في "اللا مُتاح"

في عمق النفس، يكمن انجذاب غريب نحو "اللا متاح". هذا الانجذاب لا ينبع دائمًا من قيمة الشخص الآخر، بل من قيمة الندرة نفسها. نحن لا نرغب فقط لأن الآخر رائع، بل لأنه نادر، بعيد، ممنوع...
إن العقل البشري ميّال لأن يُضفي قداسة على ما لا يُمكنه امتلاكه، تمامًا كما نُضخّم الحُلم لأنه لم يتحقق بعد، بينما نتعب من الواقع مهما كان جميلاً.

الحب كـ"إسقاط" نفسي

من منظور التحليل النفسي، كثيرٌ من حالات الحب المستحيل ليست حبًا بالمعنى الفعلي، بل إسقاطًا لمشاعر داخلية على موضوع خارجي. نحن لا نرى الشخص كما هو، بل نُسقِط عليه ما نحتاج إليه: الحنان، الاحتواء، الاعتراف، أو حتى الهروب من الوحدة.

لذلك، حين نعجز عن الوصول إلى ذلك الشخص، لا نموت حزنًا عليه، بل على الصورة التي صنعناها عنه، والتي غالبًا لا علاقة لها بالحقيقة.

الاستحالة تخلق الخلود

العلاقات المستحيلة لا تموت بسهولة لأنها لم تُولد أصلًا في الواقع؛ وبهذا تظلّ "فكرة"، محفوظة في الذاكرة، محمية من التعرّي. إنها علاقة بلا اختبارات يومية، بلا خيبات، بلا تفاصيل تُفسد المثال.
ولذلك، فهي تعيش أطول من العلاقات الحقيقية، لأنها غير قابلة للخذلان.
وهنا يكمن خداعها.

فخ التعلّق: حب أم هروب؟

كثيرون لا يقعون في حبّ شخصٍ بعينه، بل في حبّ الفكرة التي يمنحها وجود هذا الشخص: الأمان، الاحتواء، الخلاص. وحين يكون هذا الحب مستحيلًا، فإن التعلّق به يصبح آلية دفاع نفسي، تبرّر استمرار الشعور بالاحتياج دون التعرض لاحتمالية الفقد أو الفشل.

فطالما أن الحب لا يمكن أن يتحقق، فهو أيضًا لا يمكن أن يُخذل. وهكذا، يصبح العشق المستحيل هروبًا من الواقع أكثر من كونه عاطفة ناضجة.

النزعة الفلسفية للحرمان

من منظور فلسفي، الإنسان يميل إلى "النقص"، لا إلى "الاكتمال".
الرغبة تُبنى على الفراغ، لا على الامتلاء. ولذلك، فكل ما هو محروم يُصبح موضوعًا للرغبة. الحب المستحيل هنا ليس مرضًا، بل تجلٍّ طبيعي لحالة الوجود البشري، الذي يتحرّك دومًا بين الاشتهاء والحرمان، الحلم والحقيقة.

لكن هل يعني هذا أن الحب الحقيقي مستحيل؟
لا. بل يعني أن على الإنسان أن يُدرّب نفسه على التفرقة بين ما يرغب فيه لأنه يفتقده، وبين ما يستحق أن يُحبّ لأنه حقيقي.

الختام: هل نحب حقًا من لا يمكننا الوصول إليه؟

ربما، لكن الأرجح أننا نحب فكرة الحب أكثر مما نحب الشخص ذاته. نُحب التوتر الجميل بين الأمل واليأس، نحب الألم الذي يعطينا الإحساس بأننا أحياء، نحب أن يكون في حياتنا "حلم كبير" لا يُمسّ، فقط لنظل نحلم.

لكن الحياة ليست حلمًا دائمًا. والنجاة ليست في الجري خلف المستحيل، بل في إدراك أن من يستحق أن نُحبه هو من يقف معنا في نفس اللحظة، لا من يسكن وهمًا لا يُطال.

سلسلة: بقايا دفء: قراءة نقدية في العاطفة

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.