أنا.. رحلة في العمق: الذات في مرآة الآخر: انعكاس نفسي وفلسفي

هل يمكن أن أكون "أنا" دون أن أراك؟

نحن لا نولد مكتملين في ذواتنا، ولا ننشأ في فراغ.
منذ لحظة الوعي الأولى، كانت أعين الآخرين تحيط بنا، تُقيّم، تُعجب، تُوبّخ، وتنعكس فينا.
وهكذا بدأ سؤال معقد: هل أرى نفسي كما أنا، أم كما يراني الآخر؟
وهل يمكن للذات أن تتشكّل دون أن تمر عبر مرآة "الآخر"؟

الآخر كمرآة أولى

الطفل لا يعرف أنه "أنا" إلا حين يرى في وجه أمه انعكاس وجوده.
قبل اللغة، قبل التفكير، قبل أي إدراك... يتشكّل الإحساس بالذات من خلال العلاقة بالآخر، عبر نظرة، صوت، حضن، أو رفض.
وهكذا، لا تنبع الذات من الداخل فقط، بل تنعكس من الخارج.

جاك لاكان: المرآة كمصدر للهوية

يقدّم الفيلسوف والمحلل النفسي جاك لاكان مفهوم "مرحلة المرآة"، حيث يدرك الطفل ذاته لأول مرة من خلال صورة خارجية.
لكن هذه الصورة لا تعبّر عن حقيقته الداخلية بل عن "أنا مثالي"، يسعى إليه لاحقًا طوال حياته.
بمعنى آخر، نحن نبدأ بتقليد ما نرى، وننشأ لنصير كما يتوقع منا الآخرون أن نكون.

الذات كهوية متفاوض عليها

نحن نكوّن صورنا عن أنفسنا من خلال ردود أفعال الآخرين، تقييمهم، نظراتهم، وحتى صمتهم.
تقول الفيلسوفة "سيمون دي بوفوار": "المرأة لا تولد امرأة، بل تُصبح كذلك."
وفي ذلك إشارة إلى أن الهوية ليست معطاة، بل نتاج تفاوض دائم مع المجتمع والآخر واللغة.

أنا الذي أراه في عينيك

حين نواجه أنفسنا في المرآة، لا نرى الحقيقة، بل نرى صورة مُحمّلة بكل نظرات الماضي.
نرى وجوه من أحبونا، من جرحونا، من خذلونا، ومن ألهمونا.
كل واحد من هؤلاء يترك بصمة في تكوين "أنا"، سواء اعترفنا أم لا.

هل يمكن التحرر من الآخر؟

لا يمكن العيش دون الآخر، لكن التماهي التام معه يلغي ذاتنا.
التحرر لا يعني قطع العلاقة بالآخر، بل الوعي بأنها علاقة مشروطة:
نأخذ منها ما يعيننا على فهم أنفسنا، ونرفض ما يُملى علينا قسرًا.
التصالح مع الذات يبدأ حين نفهم أن "أنا" لا يعني "كما يريدني الآخر"، بل "كما أفهم نفسي رغم الآخر".

سلسلة: أنا.. رحلة في العمق

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.