وطن بين مطرقة التحول وسندان الوصاية

لم يكن السودان يومًا بعيدًا عن أنياب التدخل الأجنبي، لكن ما حدث منذ 2019 أعاد رسم المشهد بطريقة أكثر تعقيدًا. فبعد إسقاط نظام البشير، بدا المشهد كأنه ولادة لمرحلة جديدة من الديمقراطية، غير أن تلك المرحلة لم تكن سوى واجهة ناعمة لمشروع وصاية دولية، يُدار بإحكام من الخارج، وبتنفيذ أدوات داخلية جاهزة.
مسرحية "الانتقال الديمقراطي": هندسة الخارج للداخل
ما سُمّي بـ"الانتقال السياسي" لم يكن عملية ذاتية نابعة من الإرادة الشعبية، بل نُسجت خيوطه في غرف الغرب، خصوصًا واشنطن ولندن، وتم فرضها من خلال رعاية "الرباعية الدولية" التي ضمت قوى غربية وخليجية.
تم إقصاء القوى الوطنية التي ترفض الوصاية، وفتح المجال الكامل لقوى مدنية مرتبطة بمراكز تمويل ومصالح خارجية، مما حوّل "المرحلة الانتقالية" إلى مسار تصفية ممنهجة لمراكز السيادة في الدولة.
ترويض الجيش... ثم تفجيره
كان الهدف المركزي واضحًا: ترويض المؤسسة العسكرية السودانية، ومنعها من لعب أي دور وطني مستقل. وُضعت شروط مذلة لاتفاقات السلام، وجرت محاولات لإعادة هيكلة الجيش عبر التدخل في سلاسل التعيين والقرار، تحت شعار "الإصلاح الأمني والعسكري".
وحين تبيّن أن الجيش لا يزال يمتلك شيئًا من الإرادة السيادية، أُطلقت شرارة الحرب بينه وبين قوات الدعم السريع، بعد هندسة استقطاب داخلي ممنهج استُخدم فيه الإعلام والتمويل والغطاء الدولي.
الدعم السريع: أداة الحرب البديلة
تُركت قوات الدعم السريع تتمدد عسكريًا وماليًا طوال سنوات، بتواطؤ صامت من المجتمع الدولي، حتى باتت جيشًا موازياً مسلحًا ومدرّبًا، ثم جرى تقديمها فجأة كـ"قوة أمر واقع"، لها حق المشاركة في التفاوض السياسي، بل وفي رسم مستقبل الدولة!
وحين رفض الجيش السوداني هذه المعادلة، اندلعت الحرب، وسُمح للدعم السريع بارتكاب أبشع الجرائم، وسط صمت دولي مريب، وكأن الخراب مطلوب لإعادة هندسة الخريطة من جديد.
التهجير والتقسيم: سيناريو البلقنة
تشير المعطيات الميدانية إلى أن الحرب في السودان قد لا تكون مجرد صراع على السلطة، بل أداة لإعادة تشكيل جغرافية الدولة نفسها، تمهيدًا لسيناريو التقسيم، أو على الأقل، خلق أقاليم شبه مستقلة ذات ولاءات خارجية.
ويُعاد استخدام أدوات الإعلام الغربي والمنظمات "الحقوقية" لتأطير ما يحدث بوصفه نزاعًا بين طرف "متمرد ومظلوم" وطرف "عسكري سلطوي"، تمامًا كما حدث في ليبيا وسوريا من قبل.
لماذا السودان؟ ولماذا الآن؟
لأن السودان يمتلك:
- موقعًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية بين البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
- احتياطات ضخمة من الذهب والثروات الطبيعية.
- حدودًا طويلة مع مصر، وإرثًا استراتيجيًا مؤثرًا في المعادلات العربية والأفريقية.
وهكذا، تحوّلت الدولة التي حاولت التحرر من قبضة المؤسسات الغربية إلى ساحة حرب مُدارة عن بُعد، تدفع ثمنها الملايين من الأبرياء.
خاتمة: من الفوضى إلى الاستتباع
حرب السودان ليست نتيجة فشل داخلي فحسب، بل نتاج هندسة متعمدة لصناعة الانهيار، حتى تصبح البلاد مهيأة لوصاية شاملة، تُدار بالنيابة عن القوى الكبرى.
ومثلها مثل العراق وسوريا وليبيا، دخل السودان إلى مرحلة "اللاعودة"، التي لن تُفضي إلى سلام حقيقي إلا بتمرد شعبي على أدوات الوصاية وخطاباتها، وإعادة الاعتبار لفكرة السيادة الوطنية.
سلسلة: حروبنا وسيناريوهاتهم