دولة القيادة التي أُطفئت عمدًا

في منتصف القرن العشرين، كانت مصر أيقونة التحرر العربي، تقود حركات الاستقلال وتتصدر مشروع المقاومة ضد الاستعمار والصهيونية. لكن منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت رحلة انقلاب منهجي على هذا الدور، انتهت بوضع الدولة المصرية بالكامل تحت وصاية صندوق النقد، وتحويل جيشها ومؤسساتها إلى أدوات ضبط داخلي بدلًا من القيادة الإقليمية.
من الاستقلال إلى الترويض
منذ عهد السادات، بدأ التحول من النهج الناصري التحرري إلى التحالف مع الولايات المتحدة والانفتاح على "اقتصاد السوق"، كغطاء لتفكيك ما تبقّى من استقلال القرار المصري.
تم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وانطلقت بعدها سلسلة من الإجراءات السياسية والاقتصادية التي أخرجت مصر من المعادلة الإقليمية كقوة مواجهة، لتصبح ركيزة في بنية النظام الإقليمي الجديد الذي يُدار من واشنطن وتل أبيب.
الخصخصة: بوابة الوصاية
في تسعينيات القرن العشرين، بدأ برنامج "الإصلاح الاقتصادي" تحت إشراف صندوق النقد والبنك الدولي.
كان ظاهر المشروع هو "التنمية"، لكن جوهره هو فرض تبعية مالية تُعجّز الدولة عن أي قرار مستقل.
النتائج:
- بيع أصول الدولة للقطاع الخاص والأجانب بأسعار رمزية.
- تخفيض الإنفاق العام.
- تآكل الخدمات الأساسية.
- توسيع الفجوة الطبقية.
كل ذلك أدى إلى كسر الطبقة الوسطى وتفريغ المجال العام من أي قدرة على المقاومة أو المطالبة بالتغيير.
الجيش من مؤسسة وطنية إلى شركة أمنية
ظلّ الجيش المصري لعقود يُقدّم نفسه كحامي الدولة، لكنه في ظل النظام الحالي تحوّل إلى أداة لتنفيذ أجندة صندوق النقد، من خلال السيطرة على قطاعات واسعة من الاقتصاد، وتقديم نفسه كبديل عن الدولة المنهارة، لكنه في الواقع جزء من المنظومة التي ساهمت في تفكيكها.
وبينما كان يُفترض أن يبقى الجيش مؤسسة سيادية، بات اليوم شريكًا وظيفيًا في مشروع ضبط الداخل، وتأمين المصالح الخارجية.
الدور الإقليمي: الوسيط لا القائد
مصر اليوم تُستدعى لتؤدي دور "الوسيط" في ملفات مثل غزة وليبيا والسودان، لا بصفتها قوة ضغط، بل كأداة إدارية ضمن المنظومة الغربية.
تدير المعابر وتضبط الحدود، وتحافظ على "الهدوء" حين يُطلب منها، لكنها لا تمتلك قرار الحرب أو السلام.
تم نزع أنيابها الجيوسياسية، وأُخضعت لإيقاع التمويل الخليجي والتوجيه الأمريكي.
الشعب بين القمع والصدمة
تمّت إدارة الشعب المصري عبر استراتيجيتين متوازيتين:
- القبضة الأمنية التي تمنع أي مساحة للرفض أو الاحتجاج.
- الصدمة الاقتصادية التي تُرهق المجتمع وتجعله مشغولًا بالبقاء اليومي.
وهكذا أصبح المواطن المصري داخل معادلة مُحكمة:
لا يستطيع التمرّد، ولا يمكنه الصمود، وكل ذلك تحت شعار "الإصلاح" المموَّل من الخارج.
خاتمة: مصر المخنوقة بين تاريخها ومستقبلها
مصر اليوم ليست فقيرة، بل مُفقَرة عمدًا.
ليست عاجزة، بل مُعطّلة بموجب سياسات مفروضة خارجيًا.
والمعادلة واضحة:
إما الخضوع الكامل للوصاية الدولية، أو العقاب الجماعي اقتصاديًا وسياسيًا.
لكن الذاكرة المصرية لم تُمحَ. ومهما كانت وطأة الترويض، فإن هذا البلد الذي قاد العرب يومًا، قادر على العودة... متى ما سقطت الأقنعة.
سلسلة: حروبنا وسيناريوهاتهم