حروبنا وسيناريوهاتهم: الجزائر.. ثورة مقيدة داخل حدود الصمت

بلد الثورة التي أُقفلت داخلها

الجزائر، بلد المليون شهيد، التي ألهمت حركات التحرر في أفريقيا والعالم، تحوّلت اليوم إلى دولة محايدة بإجبار، غائبة عن الملفات الكبرى، ومحكومة بتوازنات ما بعد العشرية السوداء. فكيف أُخضعت هذه الدولة الثورية لمنطق الحياد القسري؟

ثورة 1962: بداية القوة... وبذرة العزل

مع الاستقلال، كانت الجزائر مشروعًا طموحًا لقيادة العالم الثالث.
دعمت حركات المقاومة، احتضنت منفيي الثورات، وتبنّت خطابًا اشتراكيًا مناهضًا للاستعمار.
لكنّ التناقض بدأ باكرًا بين طموح الشعب ونزعة الدولة نحو الانغلاق والرقابة، حتى بات النظام يضع الثورة في المتحف، لا في الميدان.

الجبر الجغرافي: محاصرة الجزائر بالمخاطر

تحيط الجزائر بدوائر توتر مُزمنة:

  • المغرب وعداء تاريخي مغطى بالصحراء الغربية.
  • ليبيا بعد انهيارها وتفشي الميليشيات.
  • الساحل الأفريقي بوصفه ممرًا للجريمة العابرة والمصالح الفرنسية.
  • أوروبا الشمالية التي تبتزها بورقة الغاز والحدود البحرية.

هذه البيئة جعلت الجزائر تُدفع دفعًا إلى العزلة والتحوّط، تحت شعار "الحياد السيادي"، لكنه حياد مفروض، لا اختياري.

العشرية السوداء: قيد الذاكرة الجماعية

الدمار الذي عاشته البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي خلّف جرحًا عميقًا.
تحوّلت الدولة بعدها إلى نظام أمني مركّب، يُدير السياسة بمنطق ما بعد الحرب، ويُفرغ المجال العام من أي ديناميكية حقيقية.

الرسالة كانت واضحة:
من يُحاول تغيير المعادلة، يُعيدنا إلى الفوضى.

وهكذا، صار الخوف من الماضي يُستخدم لتثبيت الحاضر.

الثورة المضادة الناعمة: كيف حُيّد الحراك؟

في 2019 خرج الجزائريون بملايينهم مطالبين بالتغيير، في حراك سلمي هو الأوسع منذ الاستقلال.
لكن النظام سرعان ما استوعب الموجة، وأعاد إنتاج ذاته بوجوه جديدة، دون أن يُغيّر قواعد اللعبة.

الجيش ظلّ الحاكم الفعلي، والأجهزة ظلت تراقب المجال، فيما استُهلكت الشعارات تدريجيًا حتى عاد الصمت يخيم.

العلاقة مع فرنسا: من العداء الرمزي إلى المصالح الواقعية

ورثت الجزائر إرثًا معقدًا من العداء مع فرنسا، لكن هذا العداء ظلّ رمزيًا إعلاميًا أكثر منه قطيعة حقيقية.
اقتصاديًا وثقافيًا، ما زالت البنية الجزائرية مشدودة نحو فرنسا.
أما سياسيًا، فهناك تواطؤ ضمني على منع الجزائر من التحوّل إلى لاعب استراتيجي خارج رقعة المراقبة الأوروبية.

ماذا عن فلسطين؟

تُبقي الجزائر على خطاب مؤيد للمقاومة الفلسطينية، وتُرفض علنًا التطبيع.
لكن هذا الخطاب، رغم رمزيته، لم يتحوّل إلى نفوذ فعلي أو أدوات تأثير إقليمي.
بل يظل محاصرًا ضمن لغة الدعم الأخلاقي، لا الفعل السياسي.

خاتمة: بلد الثورة المغلقة

الجزائر ليست صامتة لأنها اختارت الحياد، بل لأنها مُحاصَرة بمنظومة تخشى عودتها إلى الساحة.
إنها تعيش توازن الخوف:

  • من الماضي (العشرية السوداء)،
  • ومن الجوار (الاختراق الإقليمي)،
  • ومن الداخل (غضب شعبي مكبوت).

وكل ذلك يُدار بحسابات لا تسمح بالخروج عن النص الدولي، حتى لو كان في يدك تاريخ الثورة الأعظم.

سلسلة: حروبنا وسيناريوهاتهم

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.