البلد الذي أشعل كل شيء… ثم أُطفئ

حين أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده، لم يكن يعلم أنه يُشعل حريقًا سياسيًا امتدّ من تونس إلى سوريا.
لكنّ البلد الذي فجّر الربيع العربي عاد اليوم إلى قبضة المركز، لا بالانقلاب العسكري الصريح، بل بالتجويف الناعم للديمقراطية.
فكيف عادت تونس من الرمز إلى الهامش؟
الدولة-المختبر: حين تتحول البلاد إلى حقل تجريب
منذ 2011، اعتُبرت تونس "النموذج الناجح" للربيع العربي.
لكن هذا النجاح لم يكن خالصًا، بل كان مشروطًا، مراقبًا، ومحكومًا بسقف دولي:
- الديمقراطية كانت مقبولة ما دامت بلا أثر إقليمي.
- الإسلام السياسي مسموح له بالبقاء ما دام منزوع المخالب.
- الاقتصاد مفتوح على صندوق النقد، لا على السيادة الوطنية.
لقد فُتحت اللعبة، لكن القواعد كانت معلّبة سلفًا.
الجبر الاقتصادي: القبضة التي لا تراها
منذ سقوط بن علي، دخلت تونس في سلسلة من الديون المشروطة مع صندوق النقد الدولي.
وبدلًا من أن تُنتج الثورة نموذجًا تنمويًا مستقلًا، وُضعت البلاد تحت وصفات جاهزة:
- تخفيض الدعم.
- تجميد الأجور.
- خصخصة القطاعات العامة.
- إصلاحات هيكلية على قياس "المانحين".
وهكذا، صارت تونس بلدًا ديمقراطيًا من الخارج، لكن مُدارًا اقتصاديًا من الخارج أيضًا.
قيس سعيّد: التفويض الشعبي في قبضة الفرد
حين جاء قيس سعيّد، استبشر به الناس كوجه نظيف خارج المنظومة.
لكن سرعان ما تحوّل إلى نموذج للتفويض الفردي، عبر مسار تدريجي من الإجراءات:
- تجميد البرلمان.
- حلّ المؤسسات.
- إعادة كتابة الدستور.
- تهميش الأحزاب والنقابات.
- الحكم بالمراسيم.
ما حدث في تونس لم يكن انقلابًا تقليديًا، بل هدمًا ناعمًا للعبة الديمقراطية باسم "تصحيح المسار".
قمع بلا جنرالات
بعكس سيناريوهات الانقلابات الصلبة، لم تحتج تونس إلى دبابات في الشوارع.
بل اعتمد النظام الجديد على خطاب قانوني دستوري مموّه، وأدوات أمنية محسوبة، ودعم خفي من قوى إقليمية أرادت تحييد تونس عن أي امتداد فكري أو مقاوم.
وهكذا، صارت التجربة التونسية مثالًا على "التحكم الناعم" في نتائج الثورات.
الصمت الدولي: لماذا لم يُدَن ما حدث؟
حين حصلت إجراءات قيس سعيّد، لم تصدر إدانات غربية صلبة.
لماذا؟
لأن التجربة التونسية، رغم "ديمقراطيتها"، كانت محدودة التأثير الجيوسياسي.
وحين اختار الرئيس التونسي "الاستقرار مقابل الحرية"، لم يعارضه أحد.
لقد أصبح واضحًا:
الحرية لا تهمّ ما دامت لا تزعج المنظومة الدولية.
القضية الفلسطينية: رمزية بلا أدوات
كسابقاتها، بقيت تونس حاملة للرمزية الفلسطينية، إذ احتضنت قيادة منظمة التحرير سابقًا، ورفضت التطبيع مؤخرًا.
لكن هذا الموقف لم يُترجم إلى تأثير إقليمي فعلي أو دعم عملي للمقاومة، بل ظلّ ضمن إطار الخطاب الشعبي، لا القرار السيادي.
تونس اليوم: دولة خالية من السياسة
بقي الاقتصاد في قبضة الصندوق، والمؤسسات في يد السلطة التنفيذية، والإعلام في حالة ترهيب، والنقابات في موقع الترويض.
وتحوّل المواطن من فاعل سياسي إلى متلقٍ للأوامر، باسم محاربة الفساد، أو باسم الحفاظ على الوطن من الفوضى.
خاتمة: ثورة بلا منجز
تونس هي المرآة الأوضح للفخّ الذي نُصب للربيع العربي:
- أن تعتقد أنك انتصرت لأنك أسقطت رأس النظام.
- بينما تظلّ قواعد اللعبة كما هي،
- بل أكثر قدرة على امتصاص الغضب، وتحويل الثورة إلى "مؤسسة".
إنها الثورة التي لم تُجهض، بل أُعيد برمجتها لتعمل ضد نفسها.
سلسلة: حروبنا وسيناريوهاتهم