التحوّل الاستراتيجي في الشرق الأوسط: من الوصاية إلى التوازن الذاتي

في المشهد الدولي المتقلّب اليوم، يبدو الشرق الأوسط وكأنه يقف على حافة تحوّل عميق في بنية علاقاته السياسية والاقتصادية، تحوّل لا يُترجم إلى "استقلالٍ تام"، بل إلى ما يمكن تسميته بـ«التوازن الذاتي»؛ أي محاولة الخروج من دائرة الوصاية الخارجية دون القطيعة مع القوى الكبرى. غير أنّ هذا المسار، وإن بدا مفعمًا بفرص التحرّر النسبي، يظلّ محفوفًا بتناقضات داخلية قد تُعيد إنتاج التبعية في صورةٍ جديدةٍ أكثر خفاءً.

تعددية التحالفات: من الارتهان إلى المناورة

كانت المنطقة لعقود أسيرة ثنائية جامدة: الولاء للغرب أو الاصطفاف ضده. أمّا اليوم، فقد دخلت مرحلة جديدة من "التحالفات المتقاطعة"؛ حيث تبني الدول علاقات اقتصادية مع الصين، وعسكرية مع أمريكا، وسياسية مع روسيا، في مزيجٍ يبدو لأول وهلة متناقضًا لكنه في الواقع انعكاسٌ لوعيٍ براغماتي جديد.

إلا أنّ هذا التنويع في التحالفات لا يعني بالضرورة التحرّر من السيطرة، بل قد يتحوّل إلى تعدّد في أشكال الوصاية. فالنفوذ الأميركي لم يختفِ، بل تقلّص ليتقاسمه آخرون، فيما تظل أدوات الضغط — من الاقتصاد إلى التسليح — هي نفسها، وإن بأيدٍ مختلفة. بكلماتٍ أخرى، لم يغادر الشرق الأوسط غرفة القيادة الأجنبية، بل غيّر ترتيب المقاعد داخلها.

الخليج في قلب التحوّل: من النفط إلى النفوذ

تمثّل دول الخليج اليوم مركز ثقل التحوّل الإقليمي. فبفضل استقرارها النسبي وثرواتها المالية الضخمة، استطاعت أن تتحوّل من "ساحات نفوذ" إلى "فاعلين وسطاء"، تمارس أدوار الوساطة في النزاعات الإقليمية وتستثمر في آسيا وأفريقيا لتوسيع مجالها الجيوسياسي.

لكن هذا الصعود لا يخلو من هشاشة بنيوية؛ فالقوة المالية وحدها لا تصنع استقلالًا سياسيًا إذا ظلّت الأنظمة نفسها محكومة بمعادلات الخارج الأمنية والتقنية. إنّ بناء "الاستقلال الاستراتيجي" لا يتحقّق بزيادة الإنفاق على التسلّح أو الشراكات المتعددة، بل ببناء قاعدة مؤسسية داخلية تُمكّن القرار من التحرّك بحرية دون ابتزاز.

ولعلّ المفارقة أنّ سعي بعض دول الخليج إلى "التحرّر من الهيمنة الأمريكية" ترافق مع ارتهانٍ متزايدٍ للتكنولوجيا الغربية والأنظمة الدفاعية التي لا يمكن تشغيلها دون الإذن والموافقة. أي أن التحرّر المعلن ما يزال أسيرًا للبوابة التقنية ذاتها التي تملك مفاتيحها القوى الكبرى.

إيران وتركيا ومصر: توازنات متوترة

في مقابل الانفتاح الخليجي على الشرق، تحاول إيران وتركيا ومصر صياغة أدوارٍ جديدة وسط خريطة تتغيّر بسرعة.
إيران، المحاصرة بعقوباتٍ خانقة، أدركت أن الصدام المباشر لم يعد خيارًا واقعيًا، فانتقلت إلى استراتيجية "التنفس عبر الشرق" عبر الشراكة مع الصين وروسيا. لكنّ تلك الشراكة نفسها لا تقوم على التكافؤ، بل على حاجة موسكو وبكين إلى طاقةٍ رخيصة ونفوذٍ إضافي في الخليج. أي أنّ إيران تستبدل وصاية بأخرى، دون أن تغيّر جوهر موقعها التابع في المنظومة العالمية.

أما تركيا، فتعيد تعريف نفسها بعد عقدٍ من المغامرات الخارجية. تسعى إلى موازنة انتمائها للناتو بعلاقاتها مع روسيا والخليج، غير أنّ اقتصادها المثقل بالعجز يجعل استقلالها محدودًا. فيما تحاول مصر، من جانبها، إعادة التموضع بين الخليج والغرب، لكنّ أزمتها الاقتصادية العميقة تجعلها أكثر عُرضةً للاحتواء السياسي مقابل الدعم المالي.

بهذا المعنى، فإنّ التحوّل الجاري ليس ثورة في موازين القوى، بل إعادة توزيعٍ محسوبة للارتهانات القائمة.

الاقتصاد بوصفه أداة استعمار ناعمة

تُسوّق بعض الأنظمة العربية مشروع «التحوّل الاقتصادي» كمدخلٍ للاستقلال السياسي، لكن الواقع يُظهر العكس؛ إذ تحوّلت خطط التنمية الكبرى إلى بوابات جديدة للتبعية. فالمشروعات العملاقة الممولة من الخارج، أو بالشراكة مع الشركات الغربية والآسيوية، تُعيد تدوير السيطرة في ثوبٍ استثماري.

لقد تغيّر شكل السيطرة من الوصاية العسكرية إلى الهيمنة الاقتصادية – التقنية. لم يعد "الجنود" هم من يفرضون التبعية، بل "البيانات" و"الاستثمارات" و"العقود الذكية". ومع انفتاح المنطقة على الذكاء الاصطناعي والبنى التحتية الرقمية، تزداد الخطورة من انتقال النفوذ إلى مجالاتٍ غير مرئية، حيث يصعب اكتشاف شكل السيطرة الجديد أو محاسبته.

هكذا، يبدو أن الشرق الأوسط يتحرّر من الاحتلال العسكري، ليقع في أسر "استعمار رقمي" لا يحتاج إلى قواعد عسكرية ولا إلى حروب مفتوحة.

البنية السياسية: الشرعية المؤجّلة

كل التحوّل الخارجي يظلّ هشًا إن لم يُرفَق بتحوّلٍ داخلي. فأنظمة الحكم التي تسعى إلى الاستقلال السياسي ما زالت تُدار بذات العقلية السلطوية التي قامت عليها خلال الحرب الباردة. ما يتغيّر هو الخطاب، لا القاعدة. تُبدَّل لغة "الممانعة" بلغة "التنمية"، ويُستبدل التسلّط القديم ببيروقراطية جديدة أكثر احترافًا في تبرير غياب المشاركة.

إنّ بناء توازن ذاتي حقيقي يتطلّب استقلال القرار عن الخارج واستقلال الإرادة عن الداخل أيضًا؛ أي أن تكتسب المجتمعات العربية قدرة على الضغط والمساءلة، لا أن تبقى مجرّد جمهور متفرّج على تبدّل الرعاة الدوليين.

من دون إصلاحٍ سياسي داخلي، سيبقى التحوّل الاستراتيجي مجرّد "إعادة تغليف" للوصاية بواجهةٍ وطنيةٍ أنيقة.

نحو توازنٍ ذكيّ أم تبعية جديدة؟

تبدو السنوات الخمس القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كان الشرق الأوسط يتجه إلى توازنٍ ذكيّ قائم على المناورة والمرونة، أم إلى تبعيةٍ جديدة أكثر تعقيدًا. فالمعادلة الدقيقة بين المصالح المتقاطعة قد تمنح المنطقة فرصة نادرة لبناء توازنٍ متعدّد الأقطاب، لكنّ غياب الإرادة السياسية والاعتماد المفرط على الحماية الخارجية قد يبدّد هذه الفرصة سريعًا.

التحوّل الاستراتيجي ليس حدثًا بل مسارًا طويلًا:

  • يبدأ حين تُعيد الدولة تعريف أمنها بوصفه أمنًا داخليًا لا عسكريًا فقط،

  • ويتقدّم حين تربط التنمية بالاستقلال لا بالاستثمارات الأجنبية،

  • وينضج حين يصبح قرارها السياسي صادرًا من مؤسساتها لا من توازنات الحلفاء.

لكنّ هذه الشروط لم تكتمل بعد؛ فالدول التي تتباهى اليوم بتنوّع تحالفاتها لم تكتسب بعد الجرأة على تنويع أنماط تفكيرها السياسي، ولا تزال تخشى أن يكون التحرّر من الوصاية مقدّمة للتحرّر من الداخل أيضًا.

خاتمة: الخروج من عباءة الوصاية لا يكفي

الشرق الأوسط اليوم في مفترقٍ دقيق بين زمنين: زمنٍ انتهى كان فيه تابعًا خاضعًا، وزمنٍ جديدٍ لم يولد بعد بالكامل. قد يمتلك أدوات القوة الاقتصادية والدبلوماسية، لكنه لم يُنتج بعد نموذجًا سياسيًا مستقلًا يُترجم تلك القوة إلى قرارٍ حرّ.

إنّ التحوّل الاستراتيجي الذي يُروَّج له اليوم ليس بالضرورة إعلانًا عن الاستقلال، بل قد يكون مرحلة انتقالية بين وصايتين: واحدة قديمة تُدار بالعسكر، وأخرى حديثة تُدار بالاستثمارات والتكنولوجيا.

التحرّر الحقيقي لن يبدأ ما لم تدرك دول المنطقة أن توازن القوى لا يُبنى فقط عبر تنويع الشركاء، بل عبر إعادة تعريف الذات السياسية ذاتها — من الداخل قبل الخارج.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.