
في الأولى كان الاحتلال استيطانًا دائمًا في قلب العالم العربي، وفي الثانية كان احتلالًا مؤقتًا لإعادة ضبط توازن آسيا.
لكن جوهر الفعل واحد: فرض الوصاية على الشرق ومنع تشكّل استقلاله الحضاري.
فالاحتلال في الحالتين لم يكن هدفًا عسكريًا بقدر ما كان أداة سياسية لإدارة العالم من المركز الغربي، عبر ضبط الإقليم ومراقبة وعي شعوبه وتوجيه مسار نهضتها.
أولًا: فلسطين – الكيان الوظيفي بوصفه أداة ضبط للشرق الأوسط
لم تكن فلسطين مجرد أرضٍ احتُلّت، بل كانت المعادلة المركزية في هندسة الشرق الأوسط الحديث.
منذ بدايات المشروع الصهيوني، صاغت بريطانيا ومن بعدها أمريكا رؤية تعتبر أن إقامة كيان استيطاني في قلب المشرق هو الضمانة الأطول لبقاء التفوق الغربي.
فهذا الكيان لم يُبنَ ليحيا بذاته، بل ليبقى "وظيفةً دائمة" داخل النظام الدولي، تقوم على ثلاث مهام رئيسية:
-
كبح أي توحّد عربي أو إسلامي من شأنه أن يهدد النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.
-
ضمان تدفق الطاقة والسلع من الخليج إلى المتوسط تحت عين الغرب.
-
تحويل مركز التوتر إلى أداة ابتزاز دائمة، يستخدمها الغرب لتبرير حضوره العسكري والسياسي في المنطقة.
إسرائيل ليست دولة بالمعنى التقليدي، بل نموذج استعماري مُمَأسس داخل الشرعية الدولية، إذ تحظى بحماية دبلوماسية وقانونية تجعل احتلالها مشروعًا بنصّ القوة، لا القانون.
ومن هنا، لم يكن الاحتلال فعلًا مؤقتًا ينتظر إنهاءه، بل نظامًا مقصودًا لاستدامة الفوضى المحسوبة وضبط سقف الوعي العربي عند حدود “القبول بالأمر الواقع”.
ثانيًا: أفغانستان – الجغرافيا بوصفها نقطة ارتكاز للمراقبة العالمية
حين دخلت أمريكا أفغانستان عام 2001، لم تكن تبحث عن “العدالة” بعد أحداث سبتمبر، بل كانت تبحث عن موقعٍ لتثبيت الإمبراطورية في قلب آسيا.
لقد جاءت الحرب تحت شعار “محاربة الإرهاب”، لكنها كانت في جوهرها عملية هندسة استراتيجية لاحتواء آسيا الوسطى.
أرادت واشنطن أن تجعل من أفغانستان منصة رقابة على ثلاث قوى كبرى:
-
الصين من الشرق، لتقييد تمددها الاقتصادي عبر مبادرة الحزام والطريق.
-
روسيا من الشمال، عبر قطع امتداد نفوذها في جمهوريات آسيا الوسطى.
-
إيران من الغرب، لضمان تطويقها ومنع تشكل محور إقليمي مستقل.
لكن النتيجة جاءت معاكسة تمامًا:
فبعد عقدين من الاحتلال، اكتشفت أمريكا أن “الوصاية بالقوة” لم تعد ممكنة، وأن الاحتلال في مجتمع يملك مناعة ثقافية وهوياتية أقوى من ترسانتها، لا ينتج خضوعًا بل مقاومة مستمرة.
انهارت الصورة الإمبراطورية عند لحظة الانسحاب من كابل عام 2021، كما انهارت من قبل في فيتنام. لكن الأثر السياسي كان أعمق: انكشاف حدود القوة الغربية أمام شعوب لم تعد تُدار بالوصاية.
ثالثًا: اختلاف الأداة ووحدة المضمون
في فلسطين، تجسّد الاحتلال في نموذج “الاستيطان الوظيفي”، حيث تحوّل الغزو إلى دولة تُمنح شرعية وتُغذّى دبلوماسيًا واقتصاديًا.
وفي أفغانستان، تجسد الاحتلال في نموذج “الاحتلال المباشر المؤقت”، الذي يُراد منه إعادة هندسة الدولة ثم الانسحاب تاركًا منظومة تبعية خلفه.
لكن المضمون واحد في الحالتين:
-
ضبط الممرات الحيوية: فلسطين تربط المتوسط بالخليج، وأفغانستان تربط الشرق الأوسط بآسيا الوسطى.
-
منع التكتل الإقليمي: كلاهما يشكل حاجزًا يمنع نشوء محور شرقي مستقل.
-
إعادة تشكيل الوعي: عبر الخطاب الإعلامي والتعليم والسياسة الثقافية، ليقبل الشرق بالوصاية باعتبارها “نظامًا طبيعيًا للعالم”.
بكلمة أخرى، الاحتلال لم يكن مشروعًا عسكريًا بل نظامًا لإدارة الإدراك والسيطرة على القرار.
رابعًا: النتائج السياسية والاستراتيجية
1. في فلسطين
-
تحولت إسرائيل إلى ذراع عسكرية واقتصادية للنظام الدولي، تضمن أمن المصالح الغربية في الشرق الأوسط.
-
فشلت القوى العربية، بفعل الهيمنة الغربية، في بلورة مشروع سيادي مضاد، فاستمر الاحتلال كجزءٍ من بنية النظام الإقليمي.
-
ومع ذلك، تكوّن وعي جديد للمقاومة يرى في الصراع الفلسطيني ليس مجرد قضية أرض، بل رمزًا لصراع الإرادة ضد البنية الغربية نفسها.
-
ومع تراكم الفشل في فرض التطبيع الكامل، يتضح أن الاحتلال الإسرائيلي يعيش تحدّي البقاء أكثر من تحدّي السيطرة.
2. في أفغانستان
-
أدى الاحتلال الأمريكي إلى إضعاف مصداقية النموذج الغربي، بعد أن أنفقت واشنطن تريليونات لتخرج بلا انتصار ولا دولة.
-
الانسحاب الأمريكي كشف التحول من “مرحلة السيطرة المباشرة” إلى “مرحلة التحكم عن بُعد”، أي الاكتفاء بالعقوبات والضغوط الاقتصادية.
-
وبذلك أصبحت أفغانستان رمزًا لانتهاء حقبة الوصاية العسكرية، وبداية تراجع الغرب في قلب آسيا لصالح توازنات جديدة تقودها قوى محلية وآسيوية.
خامسًا: الدرس السياسي من التجربتين
من خلال التجربتين، يتضح أن الاحتلال لم يعد أداة فعالة لتأسيس نفوذ دائم.
في الماضي، كان الاحتلال يصنع نظامًا؛ أما اليوم، فهو يكشف النظام القائم ويفضحه.
فالاحتلال الإسرائيلي أظهر تناقضات الخطاب الغربي حول الحرية والحقوق، والاحتلال الأمريكي في أفغانستان أظهر حدود التفوق العسكري أمام صمود المجتمعات ذات الهوية العميقة.
والنتيجة الأعمق هي أن الهيمنة الغربية فقدت قدرتها على إنتاج سردية أخلاقية تبرر تدخلها، بعدما باتت الشعوب تقرأ الاحتلال باعتباره فعلًا اقتصاديًا واستراتيجيًا لا إنسانيًا ولا حضاريًا.
سادسًا: ما بعد الاحتلال – من الجغرافيا إلى الوعي
لقد دخل العالم مرحلة جديدة، لم يعد فيها الاحتلال بالمدافع هو الأداة الأساسية، بل الهيمنة عبر الاقتصاد والمعلومات.
لكن التجربتين الفلسطينية والأفغانية ما زالتا تمثلان ذاكرة مقاومة حية، تُذكّر بأن القوة حين تُفرغ من الشرعية تتحول إلى عبءٍ على صاحبها.
فالمحتل الذي كان يظن نفسه “صانع النظام” بات اليوم رهينة نظامٍ فاشل صنعه بنفسه، قائم على إدارة الفوضى لا على بناء الاستقرار.
خاتمة
فلسطين وأفغانستان ليستا جغرافيتين محتلتين فقط، بل مرآتان تكشفان جوهر النظام الدولي الحديث:
نظامٌ يُدير العالم عبر السيطرة على الممرات، وتحويل الشعوب إلى أدوات في لعبة التوازن.
لكن التجربتين أثبتتا معًا أن الاحتلال، مهما تعددت وجوهه، عاجز عن إخماد إرادة الاستقلال.
فمن القدس إلى كابل، تكررت القصة نفسها: الاحتلال ينهزم حين تفشل سرديته، لا حين تنكسر جيوشه.
وهذا ما أدركه العالم أخيرًا، حين رأى القوة الغربية تخرج من جبال أفغانستان بالهيئة نفسها التي دخلت بها فلسطين قبل قرن — منتصرة في المظهر، مهزومة في المضمون.