
في تطور غير مسبوق منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، شنت إسرائيل في 13 يونيو 2025 هجومًا جويًا واسعًا ضد منشآت نووية وعسكرية داخل العمق الإيراني، في عملية وُصفت بأنها الأعنف منذ عقود. ورغم الأزمات الداخلية الخانقة التي تعيشها إسرائيل، من حرب غزة المستمرة، وانقسام سياسي عميق، وتراجع اقتصادي واضح، إلا أن قرار استهداف إيران بهذا الشكل يطرح تساؤلات استراتيجية خطيرة: ما دوافع هذا التصعيد؟ وهل نحن على أعتاب انفجار حرب شاملة في الشرق الأوسط.
الضربة الإسرائيلية لإيران: حين تقرر الدولة المأزومة تصدير أزمتها
في لحظة إقليمية شديدة التوتر، نفّذت إسرائيل ضربة عسكرية غير مسبوقة ضد أهداف إيرانية داخل العمق الإيراني، مستهدفة منشآت نووية وعسكرية وقيادات مركزية في الحرس الثوري.
لكن السؤال الذي يتجاوز الضجيج الإعلامي هو: لماذا اختارت إسرائيل التصعيد الآن؟ ولماذا تتحرك بهذا الثقل في لحظة هي من أكثر لحظاتها ضعفًا داخليًا وتآكلًا خارجيًا؟
هنا يبدأ التحليل الحقيقي: حين تتخذ دولة مأزومة قرارًا بالحرب، فليس بدافع القوة، بل بدافع الخوف.
إسرائيل لا تضرب لأنها قوية.. بل لأنها خائفة
بعكس الصورة التي يسوّقها الإعلام الإسرائيلي والغربي، فإن هذه الضربة ليست نتاج تفوق عسكري مريح، بل نتيجة هشاشة استراتيجية عميقة.
إسرائيل اليوم محاصرة بعدة حقائق:
فشل حربي مستمر في غزة: رغم مرور أكثر من 8 أشهر على العدوان، لم تحقّق إسرائيل أهدافها ضد حماس، بل وجدت نفسها في مستنقع استنزاف غير مسبوق.
تصدّع داخلي سياسي واجتماعي: التظاهرات ضد حكومة نتنياهو، والانقسام بين الجيش والحكومة، وفقدان الثقة الشعبي، تُضعف قدرة الدولة على احتواء أي تصعيد داخلي.
تآكل الردع أمام محور المقاومة: تنامي قوة حزب الله، الحوثيين، والضفة الغربية، جعل من تفوّق إسرائيل العسكري مجرد أسطورة إعلامية تتداعى تحت ضغط الواقع.
إذاً، الضربة ليست تصعيدًا من موقع الهيمنة، بل مراهنة يائسة على استعادة صورة الردع عبر مشهد ناري واحد كبير. إنها محاولة لتثبيت “مشهد القوة” بدلًا من امتلاك القوة فعليًا.
لماذا الآن؟ تفسير توقيت القرار الإسرائيلي
1. لأن التهديد الإيراني بلغ ذروته
التقارير الاستخباراتية تتحدث عن اقتراب إيران من امتلاك القدرة النووية الكاملة. وبهذا تصبح فكرة “منع إيران من التسلح النووي” أقرب إلى نافذة تغلق.
فبالنسبة لإسرائيل، كل تأخير هو مخاطرة وجودية. لذلك اختارت التوقيت رغم المخاطر، لأن البديل – في تصورها – أسوأ.
2. لأن الداخل الإسرائيلي ينهار
القاعدة الذهبية في السياسات السلطوية: عندما يفشل الحاكم في الداخل، يُشعل نار الخارج.
حكومة نتنياهو تعاني من فقدان الشرعية الأخلاقية والمؤسسية، والاقتصاد في انحدار. ولا شيء يوحّد شعبًا ممزقًا مثل “عدو خارجي كبير”.
فالضربة ليست فقط ضد إيران، بل ضد التفكك الداخلي الإسرائيلي.
3. لأن نتنياهو في لحظة ما قبل السقوط
القرار العسكري كان أيضًا قرارًا شخصيًا. نتنياهو، الذي يتعرّض لتحقيقات ومحاكمات منذ سنوات، يعلم أن فشله في غزة سيُنهي مستقبله السياسي.
لذا، الضربة ضد إيران هي رهانه الأخير على دخول التاريخ كـ”رجل أنقذ إسرائيل من النووي الإيراني”. إنها مقامرة نرجسية مغطاة بشعارات أمنية.
4. لأن واشنطن رفعت الغطاء الرمادي
رغم ادّعاء الحياد، فإن الخطاب الأمريكي الرسمي في الأيام الأخيرة أرسل رسالة واضحة: افعلوا ما تشاؤون، لن نمنعكم.
هذا الضوء الأخضر الرمادي كافٍ لإسرائيل كي تتحرك بثقة، في ظل عودة ترامب التدريجية إلى التأثير، وصمت بايدن المحسوب.
إسرائيل تُغيّر القواعد… أم تكشف ضعفها؟
الضربة على إيران لا تغيّر قواعد الاشتباك فحسب، بل تُحرّك المنطقة بأسرها نحو نقطة اللاعودة. ومع ذلك، فإن إسرائيل تدرك:
أنها لن تستطيع تكرار هذا النوع من الضربات طويلًا.
أن الرد الإيراني، إن جاء، سيكون عبر عدة أذرع، ما يجعل إسرائيل أمام صراع متعدّد الجبهات.
أن تعاطف الغرب مع إسرائيل بدأ يتآكل، خاصة بعد جرائمها في غزة، والضربة قد تُسرّع العزلة الدولية.
فهل ربحت إسرائيل الوقت؟ ربما. لكنها في المقابل راهنت بكل ما تبقى لها من قدرة سياسية ومعنوية في الداخل والخارج.
هل ستتوسع الحرب إلى المنطقة بأكملها؟
الجواب لا يعتمد فقط على إسرائيل أو إيران، بل على من يقرر “توقيت الرد”، وهو ما قد يكون موزعًا على عدة عواصم: بيروت، صنعاء، بغداد، ودمشق.
الاحتمال الأكبر ليس في نشوب حرب شاملة فورية، بل في ظهور شكل جديد من الاشتباك المفتوح الزاحف، حيث:
حزب الله يبدأ بقصف موضعي يزداد حدة تدريجيًا.
الحوثيون يغلقون ممرات بحرية.
الفصائل في العراق وسوريا تستهدف قواعد أمريكية وإسرائيلية.
إيران تحافظ على الرد المركزي المؤجل، بانتظار لحظة أكبر.
بمعنى آخر: المنطقة قد لا تنفجر دفعة واحدة، لكنها قد تشتعل على نار متعددة ومتصاعدة.
الخاتمة التحليلية
حين تضرب إسرائيل إيران بهذا الشكل في قلب طهران، فهي لا تُمارس فقط فعلًا عسكريًا، بل تُعلن أنها فقدت ثقتها بقدرتها على تأجيل الحرب.
وفي العمق، فإن الدولة التي تبدأ حربًا من موقع الاضطرار، لا من موقع القرار، لا تملك السيطرة على نهايتها.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح الآن ليس: من سيرد؟ بل: هل ما بدأ اليوم هو نهاية مرحلة التوازنات القديمة في الشرق الأوسط… وبداية عصر اللا يقين الاستراتيجي؟