
فمن هم هؤلاء المستشرقون "المنصفون"؟ وما معيار الإنصاف حين يكون البحث من خارج المنظومة الحضارية؟ وهل يمكن فعلًا أن نثق في رؤية غربية لديننا وتاريخنا وهويتنا؟
الإنصاف في عين العاصفة
الإنصاف لا يعني الحياد الكامل، فهذا مطلب نظري عسير حتى على أبناء البيئة نفسها، لكنه يعني النزاهة في الطرح، والاعتراف بعمق التجربة الإسلامية، دون تسطيح أو شيطنة. المستشرق المنصف هو الذي لم يُسخّر علمه لتبرير الاحتلال أو دعم الدعاية الغربية، بل رأى في الإسلام مشروعًا حضاريًا يستحق الفهم والتقدير.
هذا النوع النادر من المستشرقين لم يكن صوتًا سائدًا، بل كان في كثير من الأحيان معزولًا داخل الأكاديميا الغربية، أو متّهمًا بالتعاطف مع "العدو". لكن أثره ظلّ حيًا، وأعماله أسهمت في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة.
نماذج بارزة لمستشرقين منصفين
1. إغناطيوس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher)
رغم كونه يهوديًا نمسويًا، أظهر احترامًا بالغًا للتراث الإسلامي، ورفض الصورة النمطية التي روّج لها زملاؤه عن الإسلام كدين عنف أو جمود. تتلمذ على يد علماء مسلمين في الأزهر، وكتب في علوم الحديث والتفسير برؤية داخلية حاول فيها فهم المنظومة لا تفكيكها.
2. لويس ماسينيون (Louis Massignon)
باحث فرنسي كاثوليكي، يُعد من أبرز دارسي التصوف الإسلامي، خاصة في دراسته عن الحلاج. لم يتعامل مع الإسلام كغريب، بل عبّر عن انجذاب روحي عميق له، حتى شبّه نفسه بـ"الصوفي المسيحي". دافع عن المسلمين سياسيًا وثقافيًا، وكان مناهضًا للتشويه الإعلامي للشرق.
3. مارسيل بوازار (Marcel Boisard)
كتب مؤلفه الشهير "الإنسانية والإسلام"، وامتدح فيه القيم الأخلاقية والمدنية للإسلام. رفض اختزال الدين الإسلامي في التطرف أو العنف، ودعا إلى قراءة الإسلام من خلال منظومته الأخلاقية لا عبر أعين الغرب العدائية.
4. مرجريت ماركوس (فاطمة المرنيسي)
باحثة أمريكية، دخلت الإسلام وسمّت نفسها مريم جميلة، وكتبت بشجاعة ضد النموذج الغربي الذي يُشيطن المسلمين. فضحت النفاق الحضاري الغربي، ونقدت الاستشراق المتغطرس من داخل المنظومة الغربية.
ما الذي يميّز هؤلاء؟
الجامع بينهم أنهم تجاوزوا الخطاب الاستشراقي الوظيفي، وسعوا إلى الفهم لا السيطرة، وإلى الترجمة لا التحريف. لم تكن نصوصهم مزيّنة فقط، بل صادقة في بنيتها. كانوا ينقدون الغرب كما ينقدون الشرق، ويظهرون الاحترام للآخر الديني والثقافي، لا بوصفه "موضوعًا" بل "شريكًا في الإنسانية".
لماذا هذا الاعتراف مهم اليوم؟
لأن الاعتراف بالمستشرق المنصف لا يعني تبييض تاريخ الاستشراق، بل يُظهر أن الفكر الغربي – رغم عنصريته التاريخية – لا يخلو من أصوات مقاومة، وأن الحقيقة يمكن أن تُنتج حتى من خارج الذات، إذا توفرت النزاهة والشجاعة.
ولأن العالم اليوم يعجّ بصور مشوّهة عن الإسلام، فإن استحضار هذه النماذج يُعيد التوازن في تقييم العلاقة المعرفية بين الشرق والغرب.
الختام: هل نقبل شهادتهم؟
نقبلها حين تُقرأ بوعي. لا نمنحها قداسة، لكن لا نرفضها تعصبًا. نُثمّن ما فيها من إنصاف، ونفكك ما فيها من قصور. لأن المعركة ليست بين "الغرب والشرق"، بل بين الحقيقة والهيمنة، بين العلم والدعاية.