المستشرقون المتحيزون: حين تكتب السلطة على لسان الباحث

ليست كل معرفة تحريرًا، ولا كل باحثٍ رسولَ حقيقة. فقد كان الاستشراق - في وجهه الغالب - مشروعًا معرفيًا مسيّسًا، يكتب الشرق بلغة الغرب، ويُعرّف الإسلام على مقاس الهيمنة. كثيرٌ من المستشرقين لم يأتوا طلبًا للعلم، بل صاغوا "علمًا" يخدم مشروعًا سياسيًا أكبر: مشروع السيطرة.

فمن هم المستشرقون المتحيزون؟ وما السمات التي جعلت من بحوثهم أدوات ناعمة للاستعمار؟ ولماذا لا تزال آثارهم حاضرة حتى اليوم في خطاب الإعلام والسياسة والتعليم الغربي؟

عندما تكون المعرفة أداةً للغزو

نشأ الاستشراق في أحضان المكاتب الإمبريالية، وموّله البلاط، وباركه الفاتيكان. لم يكن بريئًا. فالمستشرق المتحيز ليس من يسهو أو يخطئ، بل من يتعمّد تشويه الآخر، ويُنتج معرفة خادعة تُقنّع مشروع السيطرة وتُبرّر الإخضاع.

لقد تحوّل الشرق في نصوص هؤلاء إلى أرض خرافية مليئة بالخضوع والجهل والغرائز، تنتظر أن "ينقذها" العقل الغربي الحديث. وهذه الصور لم تكن أدبية فقط، بل كانت تمهيدًا نفسيًا وثقافيًا لاستباحة الأرض والهوية.

أبرز رموز الاستشراق المتحيز

1. إدوارد وليم لين (Edward William Lane)

رغم ما يبدو في كتابه "عادات المصريين المحدثين" من وصف دقيق، إلا أن خطابه كان مُحمّلاً بنبرة التفوق الأخلاقي والحضاري، وأوحى بشكل غير مباشر بأن المصريين كائنات غريبة بحاجة إلى تقويم "متحضر".

2. ريجيس بلاشير (Régis Blachère)

اشتهر بترجمته للقرآن، لكنه تعمّد تقديمه بصياغة فرنسية تُضعف بلاغته وتشوّش مقاصده، وساهم في تكريس قراءة مشوهة للقرآن باعتباره نصًا غامضًا لا عقلانيًا، مما أثّر على نظرة القارئ الغربي.

3. برنارد لويس (Bernard Lewis)

من أكثر المستشرقين تأثيرًا على القرار السياسي الغربي في التعامل مع العالم الإسلامي. كتب بنبرة استعلائية، وزوّر كثيرًا من المعطيات التاريخية لتبرير التدخل الغربي في شؤون المسلمين. أسّس لنظرية "صدام الحضارات" بطريقة ناعمة وخطيرة.

4. دانيال بايبس (Daniel Pipes)

ممثل صريح للاستشراق السياسي المعاصر، لا يخفي عداءه للإسلام، ويسوّق لفكرة أن الإسلام تهديد يجب احتواؤه. خطابه يغذّي الإسلاموفوبيا، ويُلبسها لبوس "التحليل الأكاديمي".

السمات المشتركة للاستشراق المتحيز

  • الانتقائية: اقتطاع مشاهد من التاريخ الإسلامي وتقديمها على أنها تمثل الكل.
  • التعميم: تحويل الخصوصيات إلى أحكام مطلقة، وربط الدين بسلوك أفراده عبر قرون.
  • الاستعلاء الحضاري: تقديم الغرب كمقياس عالمي، وكل ما يخالفه يُعتبر تأخرًا أو خطأ.
  • التوظيف السياسي: استخدام نتائج البحث لدعم تدخلات عسكرية أو مشاريع غزو ثقافي.

أثرهم في الخطاب المعاصر

ما زال الخطاب الذي أنتجه هؤلاء يُدرّس في الجامعات، ويُقتبس في وسائل الإعلام، ويُبنى عليه السياسات الخارجية. هم من أسّسوا فكرة "الشرق المعقّد"، "الإسلام العنيف"، "المرأة المسلمة المضطهدة"، و"الهوية الإسلامية الخطرة". هذا الخطاب أصبح بوصلة يقرأ بها الغرب العالم الإسلامي إلى اليوم.

تفكيك خطابهم واجب لا خيار

ليس الرد على هؤلاء بانفعالات غاضبة أو إنكار كلي. بل المطلوب قراءة دقيقة تكشف بنيتهم الخطابية وأغراضهم السياسية. وهذا ما بدأه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق، حين فضح كيف يُنتج الغرب صورة "الآخر" كي يُبرر هيمنته عليه.

الخاتمة: المعرفة ليست بريئة

علينا ألا ننسى أن الاستشراق المتحيز لم يكن جهلًا، بل كان علمًا مُفصّلًا على مقاس السلطة. كتابات هؤلاء ليست مجرد صفحات، بل أدوات غزو رمزية، صنعت وعيًا زائفًا عن الإسلام لا يزال الغرب – والشرق أيضًا – أسيرًا له.

أحدث أقدم
🏠