
هذا النمط من الإجرام لم يعد يحتاج إلى تبريرات؛ لأن تكراره الصارخ، وتطابق تفاصيله، يشي بأننا لا نتعامل مع "خطأ عسكري" أو "ضرورات ميدانية"، بل مع تكتيك مُمنهج لإدارة الإبادة بغطاء قانوني إعلامي كاذب.
تبدأ القصة عادة بنداءات من جيش الاحتلال عبر المنشورات أو الرسائل النصية أو مكبرات الصوت، تطلب من الأهالي إخلاء بيوتهم والتوجه نحو مناطق محددة باعتبارها "آمنة". ما يلبث هؤلاء المدنيون – الذين لا يملكون خيارًا – أن يستجيبوا لتعليمات "الجلاد الرحيم"، حتى تنهال عليهم القذائف بعد أيام أو ساعات في المكان الجديد الذي زُجّوا إليه قسرًا.
هذا ما حدث في شمال غزة، ثم في خان يونس، ومرة أخرى في رفح، حين نُقل عشرات الآلاف من الفلسطينيين تحت ضغط الحرب، فقط ليُقتلوا في ما اعتُبر "ملاجئ نجاة". هنا، تتجاوز الجريمة منطق الحرب، لتدخل في نطاق الإبادة باستخدام الحيلة: خداع المدنيين لحشرهم في مساحات مستهدفة مسبقًا، في انتهاك صارخ لكل مواثيق القانون الدولي والإنساني.
لكن لماذا تلجأ إسرائيل لهذا التكتيك؟ ولماذا تصر على تسويقه رغم انكشافه؟
لأنها تدير الحرب باعتبارها حربًا على الوجود، لا على المواقع. وكلما تضاءل عدد سكان غزة أو تم تفريغ مناطقها من البشر، اقتربت من تحقيق هدفها الأكبر: إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية والسياسية للمنطقة، تحت غطاء "إدارة أمنية" أو "حلول إنسانية".
إننا أمام سياسة لا تختلف عن ما فعله الصرب في البوسنة، أو القوات الاستعمارية في إفريقيا: التهجير تحت ضغط القصف، ثم القتل في مناطق التهجير، مع تحميل الضحايا مسؤولية مصيرهم.
وهنا، يظهر الوجه الحقيقي لأسطورة "أكثر جيش أخلاقي في العالم"، حين يصدر أوامر بالإخلاء ثم يقصف وجهة الإخلاء نفسها.
هذا ليس فقط قتلًا، بل قتل مع سبق التخطيط والتبرير والتوثيق.
الأهداف والنتائج
-
الأهداف المباشرة للجريمة:
تفريغ مناطق المقاومة الفعّالة من المدنيين لسهولة قصفها، والضغط على المقاتلين من خلال قتل أهلهم في أماكن الإجلاء. -
الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:
تغيير التركيبة السكانية لغزة، تمهيدًا لتقسيمها إلى مناطق خانعة يمكن التحكم بها إداريًا وأمنيًا، وخلق واقع ديموغرافي جديد يسهل التفاوض عليه مستقبلًا. -
النتيجة (الميدانية أو السياسية أو الإعلامية):
على المدى الميداني، أدى هذا التكتيك إلى تصاعد الغضب الشعبي الدولي، لكنه منح إسرائيل هامشًا دعائيًا تزعم فيه أنها حاولت حماية المدنيين، لتبرّر بعدها المجازر التي ارتكبتها في مناطق التهجير "الآمنة".
خاتمة
حين تتحول التعليمات العسكرية إلى فخاخ موت، وتُدار المعارك على أجساد المدنيين، فإن العالم أمام نموذج واضح للإبادة الحديثة: إبادة محسوبة، مُصوَّرة، وموثقة، تُمارَس باسم الأمن و"الحرص على أرواح المدنيين".
لكن الأفظع من الجريمة، هو تواطؤ المنظومة الدولية بالصمت، أو بتحريف النقاش نحو "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". أما المدني الفلسطيني، فهو دائمًا المجرم حتى لو كان طفلًا في حضن والدته، أو نازحًا في خيمة، أو لاجئًا على عتبة وطنه الذي أُعيد تشكيله كزنزانة مفتوحة.