لكن حين تتحوّل هذه المنظمات إلى أداة انتقائية، وتُصوّب عدساتها نحو مناطق بعينها وتتجاهل أخرى، وحين تخضع تقاريرها لضغوط التمويل أو الأجندات السياسية، فإنها تفقد روحها، بل تتحوّل إلى أداة تبرّر الهيمنة بدل مقاومتها.
فهل ما زالت هذه المنظمات صوتًا إنسانيًا عالميًا؟ أم أصبحت جزءًا من لعبة المصالح؟
الخطاب المعلن
تقدّم المنظمات الحقوقية نفسها كمؤسسات مستقلة، غير حكومية، غير ربحية، هدفها:
- حماية حقوق الإنسان بغضّ النظر عن الجنسية أو الدين أو العِرق
- توثيق الانتهاكات ومحاولة محاسبة المسؤولين
- دعم حرية التعبير والمعتقد والتنظيم
- مناصرة ضحايا القمع والتعذيب والتمييز
ومن أبرز هذه المنظمات:
- هيومن رايتس ووتش
- العفو الدولية (أمنستي)
- الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان
- مراسلون بلا حدود
- اللجنة الدولية للحقوقيين
لكن ماذا لو كانت هذه المبادئ تُطبّق بانتقائية؟ وتُستخدم كأدوات ضغط لا كمعايير إنسانية موحّدة؟
الجانب المظلم
ازدواجية المعايير
أبرز مظاهر التوظيف السياسي يكمن في الانتقائية في التغطية:
- تُغرق هذه المنظمات تقاريرها بانتقادات حادة لدول "معادية" للغرب أو مستقلة عنه.
- لكنها تصمت أو تخفف لهجتها حين يتعلّق الأمر بانتهاكات حلفاء الغرب: من الأنظمة الملكية، إلى إسرائيل، إلى الدول الغربية نفسها.
- مئات التقارير عن قمع المعارضة في روسيا أو إيران، مقابل تجاهل شبه تام لجرائم الاحتلال في فلسطين أو تدخلات الناتو في ليبيا وأفغانستان.
التمويل والتحكم الخفي
رغم صفة "غير حكومية"، تعتمد هذه المنظمات بشكل كبير على تمويل مباشر أو غير مباشر من دول أو مؤسسات كبرى:
- بعض فروع "العفو الدولية" ممولة من جهات أوروبية رسمية.
- مؤسسات مثل "Open Society" لها نفوذ واسع في توجيه الملفات ذات الطابع السياسي.
- التمويل يخلق تبعية خفية تُوجّه السياسات، وتجعل بعض المواضيع محظورة فعليًا.
هندسة السرد الحقوقي
- تُستخدم التقارير الحقوقية في توقيتات سياسية معينة، لإضعاف حكومات معينة، أو تهيئة الرأي العام لتدخلات دولية.
- تتحول المنظمات الحقوقية إلى "غرفة صدى" للإعلام الغربي، فتُضخَّم أحداث محلية، وتُصوّر على أنها "جرائم ضد الإنسانية"، بينما تُقزّم جرائم الحروب الكبرى.
- كما تُستعمل هذه المنظمات لتبرير العقوبات الاقتصادية التي تدمّر حياة الشعوب.
تجاهل الاستعمار الجديد
نادراً ما تُسلّط هذه المنظمات الضوء على الهيمنة الاقتصادية، أو نهب الموارد، أو الابتزاز المالي الدولي.
- فهي تُركّز على انتهاكات أفراد أو أنظمة، وتُغفل البُنى العميقة للظلم العالمي.
- لا تتناول تدخلات صندوق النقد الدولي، ولا الهيمنة الرقمية، ولا جرائم الشركات متعددة الجنسيات.
التغلغل داخل الدول المستهدفة
بعض المنظمات تتجاوز حدود "المراقبة"، لتُصبح جزءًا من الاختراق الداخلي للدول:
- تمويل مراكز بحثية ومنظمات محلية تتبنّى السردية الغربية.
- تدريب نشطاء على استراتيجيات إعلامية تُستخدم لاحقًا في الضغط الخارجي.
- دعم أشكال من المعارضة المتماهية مع مصالح القوى الكبرى، لا مع إرادة الشعوب.
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
- من المهم التمييز بين حقوق الإنسان كمبدأ، وبين من يُوظّفه كأداة.
- علينا أن نسائل التقارير لا أن نُسلّم بها، وأن نسأل: من كتب؟ من موّل؟ من صمت؟ ولماذا؟
- يجب بناء منظومات حقوقية بديلة، مستقلة عن الهيمنة الغربية، تعبّر عن السياق الثقافي والاجتماعي للشعوب، دون الخضوع لمعادلات التمويل.
- لا يكفي الدفاع عن الحريات الفردية، بل يجب فضح المنظومات الدولية التي تُكرّس التفاوت، وتُنتهك بها كرامة الشعوب على نطاق واسع.
الخاتمة التحليلية
منظمات حقوق الإنسان ليست كلها متشابهة، لكن كثيرًا منها تحوّل من شاهدٍ محايد إلى فاعلٍ منحاز في مسرح السياسة الدولية.
من لم يفضح الاحتلال، ولا العقوبات، ولا الحروب، ولا الاستعمار المالي، لا يمكنه ادّعاء الحياد.
وحين تُستخدم معايير العدالة سلاحًا انتقائيًا، فإنها تفقد معناها، وتُصبح جزءًا من أدوات الهيمنة لا مقاومتها.
إن تحرير الإنسان لا يتم عبر تقارير مموّلة، بل عبر وعي نقدي مستقل، وسردية إنسانية صادقة، ومقاومة شاملة لكل أشكال القمع، مهما كان مصدرها.