لطالما ارتبط اسم الأزهر الشريف في الوجدان العربي والإسلامي بالعلم والاعتدال ومرجعية الدين. مؤسسةٌ عريقة تمتد جذورها لأكثر من ألف عام، ويُنظر إليها كحارسة للإسلام الوسطي وصاحبة التأثير الأكبر في تشكيل الوعي الديني للعالم العربي.
لكن خلف هذه الصورة النقية، تبرز أسئلة حادة: هل ما زال الأزهر مؤسسة مستقلة تُعبّر عن ضمير الأمة؟ أم أنه أصبح، تدريجيًا، تابعًا للسلطة السياسية وراعيًا لصياغة إسلام رسمي مروّض يخدم الاستقرار لا الحق؟
الخطاب المعلن
يُقدَّم الأزهر كمرجعية دينية عليا لا تنحاز إلا للوسطية، وكمؤسسة تسعى لحماية الأمة من الغلو والتطرف، وتعزيز ثقافة الحوار والانفتاح، والتوفيق بين الدين والدولة دون تصادم. ويُروّج لنفسه بأنه مستقل إداريًا وفكريًا عن السلطة، ويقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف السياسية.
الجانب المظلم
الواقع أكثر تعقيدًا من الخطاب. فالأزهر، رغم قيمته التاريخية، أصبح فعليًا رهينة للسلطة السياسية في مصر، بل يُستثمر كأداة لشرعنة السياسات القائمة، وتقديم غطاء ديني لها في لحظات حرجة.
حين يُطلب من الأزهر الحديث عن المقاومة الفلسطينية أو الثورة السورية، تخرج مواقف باهتة، حذرة، أو متأخرة، بينما يُسارع في قضايا تهم النظام المصري داخليًا، سواء في دعم الرئيس، أو التصديق الضمني على سياسات القمع، أو السكوت عن الاستبداد.
الازدواجية تكمن في أن الأزهر لا ينتقد أنظمة عربية متورطة في التطبيع أو الحرب على الإسلاميين، لكنه في الوقت ذاته يندد بالعلمانية الغربية والانحراف الأخلاقي!
كما أن هيمنة الفكر التقليدي المحافظ داخل المؤسسة، ورفضها لأي قراءة تجديدية جذرية للنصوص، جعل من الأزهر حارسًا للعقيدة الرسمية أكثر من كونه منصّة اجتهادية تُجدد للأمة دينها.
بل إن المؤسسة – رغم زعم الاستقلال – تخضع قانونيًا وإداريًا لسلطة الدولة، وتعيين شيخه يتم بمرسوم رئاسي، ويُراقَب تمويله ومناهجه، ما يُفرغ ادعاء الاستقلال من مضمونه الواقعي.
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
لا بد من وعي يُفرّق بين الرمزية التاريخية والواقع المعاصر، وبين تقدير مكانة الأزهر كتراث، ونقد أدائه كمؤسسة فاعلة اليوم.
التحرر يبدأ من السؤال: هل يخدم الأزهر الدين أم الدولة؟ وهل وسطيته هي نتاج اجتهاد فكري أصيل، أم تكيّف مع منطق السلطة؟
المطلوب ليس الهجوم على المؤسسة، بل فكّ الارتباط بين الدين والسلطة، واستعادة دور الأزهر كمجال معرفي حر، لا كذراع ديني للنظام، ولا كحصن ضد كل محاولة نقدية.
الخاتمة التحليلية
الأزهر، بما له من رمزية دينية وعلمية، لا يزال يحتفظ بمكانة في وجدان الشعوب. لكنه كمؤسسة اليوم، يعكس مأزقًا أعمق: تحوّل المرجعيات الدينية إلى أدوات ناعمة لتثبيت النظام لا تحريكه.
وإذا لم يُعَد تعريف دوره وموقعه خارج منطق الدولة المركزية، فسيبقى شاهدًا على طمس الفكر لا حاميه، وعلى تأبيد السكون لا إحياء التجديد.