
حمل رايته ملايين المتطوعين، ودخلت شعاراته ساحات الحروب كمبعوث سلام لا يُمسّ. لكن خلف الصورة الناصعة للمساعدات والإسعافات، يكمن دور أكثر تعقيدًا… وربما أكثر التباسًا.
هل هو فاعل إنساني محض، أم جزء من البنية العالمية التي تُدير النزاع دون أن تنهيه؟ وهل حياده المزعوم يُخفي عجزًا أم يُبرر صمتًا مريبًا؟
الخطاب المعلن
تتبنّى اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) خطابًا يقوم على الحياد التام، وعدم الانحياز في النزاعات، والتركيز فقط على الاحتياجات الإنسانية، لا على الجوانب السياسية أو الأخلاقية.
يُروَّج لها كجسر لا طرف، ووسيط لا صاحب موقف، مما يمنحها فرصة الوصول إلى مناطق لا تصلها سواها. وتُصوَّر عملياتها على أنها تُجسّد القانون الدولي الإنساني بأبهى صوره.
الجانب المظلم
لكن هذا الحياد ذاته أصبح محل نقد واسع. إذ تحوّل إلى غطاء يبرر الامتناع عن إدانة جرائم واضحة في ساحات الحرب، بحجة "عدم تسييس العمل الإنساني".
في كثير من الحالات، امتنع الصليب الأحمر عن إدانة اعتقالات تعسفية، أو مجازر ضد المدنيين، أو حتى حصار وتجويع شعوب بأكملها، فقط لأنه لا يتدخل إلا "بطلب من الأطراف"!
والأخطر أن العلاقة الوثيقة بين المنظمة والدول الكبرى، خصوصًا سويسرا والدول الأوروبية المانحة، يجعل حيادها محل شك، خاصة حين تتعامل بليونة مفرطة مع انتهاكات حلفاء الغرب، وتُظهر صرامة أكبر تجاه أطراف معادية للمنظومة الغربية.
في فلسطين مثلاً، لطالما اكتفى الصليب الأحمر بتقارير خجولة عن أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال، دون مواقف حازمة أو ضغوط حقيقية. وفي العراق وسوريا، ظهر الصليب الأحمر كفاعل إغاثي مهم، لكنه لم يرفع صوته بمستوى يليق بحجم المجازر والتجاوزات.
كما أن تعامله مع المعتقلين في السجون السرية (مثل غوانتانامو أو سجون CIA) لم يخلُ من الصمت أو التعتيم، رغم ادعاء زيارتهم. هل الصمت هنا تكتيك للحفاظ على الوصول، أم تورط في شرعنة نظام قمعي دولي باسم القانون الإنساني؟
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
من الضروري إدراك أن المنظمات الإنسانية ليست دائمًا خارج اللعبة الجيوسياسية، بل أحيانًا جزء منها.
الحياد لا يعني الصمت، وعدم التسييس لا يعني عدم الأخلاق. يجب مساءلة المؤسسات الكبرى، بما فيها الصليب الأحمر، عن مواقفها المعلنة والمسكوت عنها، وعن علاقاتها بالسلطة والممولين.
لا يجوز التعامل مع الشعار الإنساني كحصانة مطلقة، فالمآسي تُدار أحيانًا باسم "الحياد" الذي يعيد إنتاج الظلم دون أن يوقفه.
الخاتمة التحليلية
الصليب الأحمر، بوصفه مؤسسة ذات نفوذ أممي، قدّم ولا يزال يقدم مساعدات مهمة، لكن أداءه لم يكن نزيهًا بالكامل، ولا محايدًا دائمًا.
ففي عالم تحكمه القوى، يصبح الحياد أداة توظيف، والصمت موقفًا، والتغاضي تواطؤًا. وما لم يُخضع العمل الإنساني للمساءلة الأخلاقية، فسنبقى أسرى شعارات نبيلة تُدار بها حروب قذرة.