
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، رسّخت إيران لنفسها صورة "قوة المقاومة" في وجه الإمبريالية والصهيونية. رفعت شعارات "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل"، وقدّمت نفسها كحامل لواء المستضعفين في العالم الإسلامي، وكمنافس فكري وأيديولوجي للنموذج الأمريكي الخليجي.
لكن إذا تجاوزنا الشعارات وذهبنا إلى الواقع السياسي والعسكري، يبرز سؤال حاسم: هل كانت الضربات الإيرانية موجّهة حقاً إلى أعداء الأمة، أم أنها استُهلكت داخل المجال الإسلامي نفسه؟
هنا يتجلّى الفرق بين إيران "الرمزية"، وإيران "الوظيفية".
الخطاب المعلَن: إيران كقوة مقاومة عالمية
تتبنّى إيران رسميًا خطابًا أمميًا ثوريًا يعادي قوى الهيمنة الغربية، وعلى رأسها:
- الولايات المتحدة (بوصفها "الشيطان الأكبر")
- إسرائيل (بوصفها "الورم السرطاني")
- و"الأنظمة العميلة" في العالم العربي.
وتقدّم نفسها كـ:
- داعمة لفلسطين عبر تمويل وتسليح فصائل المقاومة (كالجهاد الإسلامي وأحيانًا حماس).
- قوة ممانعة ترفض التطبيع والتواطؤ مع أمريكا.
- قائد لمحور مقاوم يمتد من طهران إلى غزة عبر بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
هذا الخطاب جذاب للمظلومين، وملهمٌ لكثير من الحركات المناهضة للغرب في العالم الإسلامي، لكنه لا يصمد كثيرًا أمام اختبار الممارسة.
الجانب المظلم: من تضرب إيران فعلًا؟
عندما نراجع سجل الضربات الإيرانية وتحركاتها العسكرية، نجد أنها استهدفت بدرجة أولى:
1. البيئات السنية المقاومة وغير الموالية
- في العراق: دعمت الميليشيات التي استهدفت مدنيين ومقاتلين سنّة بعد سقوط صدام حسين.
- في سوريا: دعمت النظام الطائفي في قمع الثورة الشعبية منذ 2011، وساهمت في تهجير ملايين المسلمين من السنة.
- في اليمن: دعمت الحوثيين الذين خاضوا صراعًا دمويًا مع مكوّنات يمنية سنية، وأشعلوا حربًا أضرت بالمدنيين أكثر من "الأعداء الخارجيين".
2. المعارضة الإسلامية غير الموالية لها
لم تكن المواجهة بين إيران و"داعش" فقط من باب مواجهة الإرهاب، بل تضمنت أيضًا استهدافًا لقوى إسلامية وسطية وعلماء ومفكرين ممن لا يتبنّون مشروع ولاية الفقيه.
3. الحركات الوطنية والمستقلة داخل الشيعة أنفسهم
استهدفت إيران أيضًا الأصوات الشيعية المعارضة، كالحركات الوطنية العراقية التي رفضت الهيمنة الإيرانية، وقمعت بشدة أي توجه ديني غير خاضع لمرجعية قم.
4. غياب الضربات المباشرة ضد إسرائيل
رغم التصعيد اللفظي، لم تنفّذ إيران أي ضربة عسكرية مباشرة ضد أهداف إسرائيلية من أراضيها. كل مشاركتها ضد إسرائيل جاءت عبر حلفاء (حزب الله، حماس، الحوثيين)، ضمن حسابات سياسية لا تصل إلى عتبة الحرب الفعلية.
كيف تفكّر إيران استراتيجيًا؟
لنفهم لماذا يحدث هذا التناقض، علينا قراءة العقل الجيوسياسي الإيراني:
- العدو الأخطر هو المنافس داخل البيت الإسلامي، لا إسرائيل.
- الهيمنة على القرار في العواصم العربية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء) أهم من الانخراط في مغامرة مفتوحة ضد إسرائيل.
- إسرائيل خطر مؤجل، أما الإسلام السياسي السني فهو خطر وجودي مباشر يهدد شرعية النظام الإيراني الثيوقراطي.
بالتالي، تستخدم إيران الخطاب المقاوم كمظلّة لتبرير نفوذها داخل المجال الإسلامي، دون الدخول في صدام فعلي مع "العدو الخارجي".
تطوير وعي نقدي: بين المقاومة الحقيقية والمقاومة الوظيفية
على الشعوب أن تسأل لا فقط: من يرفع شعار المقاومة؟ بل: من يدفع ثمن هذا الشعار؟
فإذا كان العرب والمسلمون هم الضحايا الدائمون لضربات تلك "المقاومة"، فإن المشروع يتحوّل إلى أداة توسّع لا مشروع تحرر.
خطوات نحو تفكيك الخطاب:
- افصل بين الدعم السياسي الظاهري وبين التكاليف الإنسانية الفعلية للمشروع الإيراني.
- لا تجعل العداء لإسرائيل مبررًا لتبرير التحالف مع قوى تضرب المسلمين أكثر مما تضرب العدو.
- اسأل دومًا: من المستفيد من كل تدخل؟ من يُحكم؟ من يُقتل؟ من يُهجّر؟
الخاتمة التحليلية
إيران ليست عدوًا ظاهرًا للأمة، ولا صديقًا صادقًا لها. إنها قوة تبحث عن دورها الإقليمي، تمامًا كما تفعل تركيا والسعودية وإسرائيل.
لكنها تفعل ذلك تحت عباءة "المقاومة"، مما يمنح مشروعها طابعًا أخلاقيًا يخفي ممارسات لا تختلف كثيرًا عن خصومها.
وإذا لم يطابق الخطاب الفعل، فإن المقاومة تتحوّل إلى وظيفة استراتيجية لا مشروع تحرري. وهنا يكون الخطر الحقيقي.