
هذا ليس حديثًا عن نظريات مؤامرة، بل عن هندسة رأي عام ناعمة، توظّف ما يبدو تلقائيًا وعفويًا، لتثبيت سرديات تخدم مصالح سلطوية أو رأسمالية أو أيديولوجية.
نحن هنا أمام نموذج محدّد من التضليل: صناعة الرأي الحر المعلّب.
أولًا: الفرد من "العامة" كنجم مصنَّع
يُختار شخص من خلفية شعبية، يظهر بعفويته ولهجته المحلية، ويتحدث بلغة "الناس"، ثم يُمنح فجأة منصة واسعة، ويتم تصويره كمن يحمل مشعل التنوير وسط الظلام. لكن ما يقوله هذا الصوت "الحر" يدور حول:
- مهاجمة الدين أو الموروث أو الهوية الجمعية،
- الدفاع الضمني عن سلطات قمعية من خلال مهاجمة خصومها فقط،
- تسويق أفكار تُمجّد الفردانية وتشيطن المقاومة وتُفرغ الوعي من محتواه النقدي.
هذا الشخص قد لا يكون مأجورًا، بل مقتنعًا تمامًا بما يقول، لكن آلية التلميع لا تختاره لأنه حرّ، بل لأنه يُعبّر بحرّية عن ما يُناسب مصالح القوة.
ثانيًا: من "ناشط مضطهد" إلى بوق ناعم للسلطة
نموذج آخر: شاب أو فتاة يواجهون القمع يومًا ما، يُسجنون أو يُلاحَقون، فيتحولون إلى رموز. لكن بعد سنوات، يظهرون في إعلام ممول من جهات إقليمية أو دولية، ويبدؤون الحديث عن "السلام" و"التسامح" و"الواقعية السياسية"، لكن هذا التحول لا يشمل الجميع، بل يهاجم فقط خصوم الجهة الراعية، ويتجنّب نقد أي سلطة لها نفوذ.
يُعاد تدويرهم كـ"عقلاء خرجوا من عباءة الثورة"، لكنهم في الحقيقة خرجوا من دائرة الصدام لا لأنهم تعافوا، بل لأنهم استُوعبوا داخل النظام العالمي نفسه الذي أنتج قمعهم الأول.
ثالثًا: ناقد المجتمع لا السلطة
أحد أخطر نماذج التلميع هو ذلك الشخص الذي "يجلد المجتمع". ينتقد الذكورية، التخلف، القبلية، الانغلاق، ويتحدث عن أهمية "التنوير" و"الحداثة". ويبدو خطابه جميلًا في ظاهره، لكن حين تدقّق، تكتشف:
- أنه لا ينتقد بنية القمع السياسي أو الاقتصادي،
- يتبنّى خطابًا يُحمّل الناس مسؤولية مآسيهم، بينما يُبرّئ الأنظمة،
- يُسخّر قضاياه الاجتماعية لصالح سردية غربية استشراقية ترى في شعوبنا مادة خام للتقويم لا ضحايا للاستغلال.
يصبح هذا "الناقد المجتمعي" جزءًا من ماكينة اللوم الداخلي، ويساهم دون أن يدري في تشويه الضحية وتبرئة الجلاد.
رابعًا: اللاجئ/المهاجر المثالي
في الغرب، تُلمَّع بعض الأصوات من أبناء المهاجرين لتتحدث عن معاناة مجتمعاتهم، لكن وفق شروط محددة:
- تهاجم ثقافتها الأصلية،
- تتبرّأ من الانتماء الديني،
- تُظهر ولاءً كاملًا "لقيم الحضارة الجديدة".
هذه الأصوات تحصد الجوائز وتُستضاف في المؤتمرات، لكن ليس لأنها أعمق أو أصدق، بل لأنها تخدم رواية الغرب عن "نجاته الأخلاقية" مقابل "بربرية الآخر".
وفي المقابل، تُقصى الأصوات التي تُحمّل الغرب مسؤولية الاستعمار أو الحروب أو العنصرية البنيوية، حتى لو كانت أكثر صدقًا أو تأثيرًا.
خامسًا: السخرية كقناع للخطاب السلطوي
من أكثر الأدوات فاعلية: تلميع الشخصيات الساخرة. الشاب الظريف الذي "يقول ما لا يجرؤ أحد على قوله"، يسخر من كل شيء، ويمتلك حضورًا كاريزميًا، لكنه حين تتأمل خطابه:
- يسخر من الدين، لا من القمع.
- يهاجم المتدينين، لا المستبدين.
- يسخر من المقاومة، لا من الاحتلال.
- يُضحك الناس على أنفسهم، بينما يتجاهل من يدهسهم.
هذه السخرية تُستخدم كسلاح تشتيت، وكأنها تنفيس مبرمج يغني الجماهير عن الغضب الحقيقي.
خاتمة: من يختار "الرأي الحر"؟
المعضلة ليست في الأفراد، بل في المنظومة التي:
- تلمّع من تقولهم لا يزعج أحد،
- وتُقصي من يقول ما يجب أن يُقال.
الرأي الحر ليس من يظهر على الشاشات، بل من يُمنَع من الظهور.
والعقلانية الحقيقية ليست تلك التي تُصفّق لها المنصات، بل التي تُقاوم حتى ولو صمت عنها الجميع.