الحياد الإعلامي: أكذوبة مهنية أم تواطؤ مُقنّع؟

"نحن ننقل الخبر كما هو، دون رأي أو تحيّز"، شعار ترفعه كثير من المؤسسات الإعلامية لتكسب ثقة الجمهور. لكن، هل يمكن حقًا نقل أي حدث دون زاوية؟ هل الحياد المزعوم في الإعلام دليل نزاهة أم قناع لإخفاء الانحياز؟

في عالم يشتعل بالصراعات والسرديات، يصبح الحياد الإعلامي أداة تلاعب، لا ضمانة للصدق. وهذا المقال يفكك خطاب "الحياد" المزيّف، ويكشف كيف يُستخدم كستار ناعم لتطبيع الظلم، وتسويق روايات الأقوى.


من ينقل، يختار

الصحفي لا ينقل كل شيء. بل يختار ما ينقل، وكيف ينقله، ومتى. وهذه الاختيارات ليست حيادية بطبيعتها.
أن تعرض صورة لدمار غزة دون ذكر الفاعل، أو أن تستخدم كلمة "اشتباك" بدل "عدوان"، فهذا ليس حيادًا، بل انحياز ضمني للقاتل.
اللغة ليست محايدة. والعناوين ليست بريئة. ومن يملك الكاميرا يملك أيضًا زاوية الرؤية.


حين يصبح الصمت تحيّزًا

الحياد لا يعني الصمت. وحين تمتنع القنوات عن تغطية مذبحة، أو تُساوي بين الضحية والجلاد، فذلك ليس "مهنية" بل تواطؤ.
السكوت عن الظلم حين يُطلب منك الكلام هو مشاركة في الجريمة، لا موقف أخلاقي.
"الحياد" الذي يُسوّق على أنه التزام، يتحوّل إلى آلية لغسل أيدي الإعلام من دماء الحقيقة.


التوازن المصطنع لتسويق الأكاذيب

بعض الإعلام يزعم أنه "يستضيف الطرفين" ليكون محايدًا. لكن حين تُمنح المجرم والمنكوب نفس المساحة، دون فضح الفارق بين الجلاد والضحية، فأنت لا تعرض الحقيقة، بل تساوي بين النور والظلام.
هذا النوع من "التوازن" هو تواطؤ مغلّف: يقدّم القاتل كوجهة نظر، ويجرّد الضحية من عمق مأساتها.


الحياد كسلعة رأسمالية

في السوق الإعلامية، تُباع ثقة الجمهور كمنتج. والحياد أحد أبرز الشعارات التجارية.
لكن الحياد في الإعلام الحديث لا يُقاس بما يُقال فقط، بل بما يُخفى، وبما يُكرّر، وبمن يُستضاف.
كثير من المؤسسات "المحايدة" تملكها شركات استثمارية، أو تخضع لممولين أصحاب أجندات. وهنا، يصبح الحياد واجهة براقة لمنظومة متحيّزة بالكامل.


خاتمة: الصدق لا يحتاج حيادًا.. بل شجاعة

ليس المطلوب من الإعلام أن يكون حياديًا، بل أن يكون شجاعًا.
أن يسمي الأشياء بأسمائها. أن ينحاز للحق حين يُظلم، لا أن يتذاكى بحياد زائف يغسل الجرائم.
الإعلام النزيه لا يختبئ وراء الحياد، بل يواجه الكذب بالحقيقة. وفرق كبير بين أن تكون صحفيًا، وأن تكون ناقلًا بصمت لجريمة تُرتكب.

أحدث أقدم
🏠