
بقاء الإسلام في الصين رغم الحرب الشيوعية وقمع الأديان يُعدّ من الظواهر الجديرة بالتأمل التاريخي والفكري، إذ يكشف عن مدى تعقيد العلاقة بين الدين والدولة، وكذلك عن صمود الهويات الثقافية في وجه مشاريع الإذابة الشاملة. ويمكن تحليل هذا البقاء من عدة زوايا:
أولاً: الجذور التاريخية العميقة
الإسلام دخل الصين منذ القرن السابع الميلادي (في عهد الخلافة الأموية)، عبر التجارة البحرية والبرية (طريق الحرير)، واستقر لقرون طويلة قبل الثورة الشيوعية. وقد اندمج المسلمون في النسيج الصيني دون أن يذوبوا فيه، محافظين على خصوصيتهم الثقافية والدينية، ما جعل الإسلام جزءًا راسخًا من التنوع الصيني، لا طارئًا عليه.
ثانيًا: التركيبة العرقية للمسلمين
ينتمي المسلمون في الصين إلى عدة قوميات معترف بها رسميًا، أبرزها:
- الهوي (Hui): وهم صينيون عرقيًا لكنهم مسلمون دينيًا، ويتحدثون الصينية.
- الويغور (Uyghur): وهم سكان تركستان الشرقية (شينجيانغ حاليًا)، ذوو أصول تركية، ويتحدثون لغة تركية.
هذا التنوع أتاح للإسلام أن يتجذر في أكثر من بيئة اجتماعية، وأن ينحو أحيانًا طابعًا ثقافيًا إثنيًا يصعب اجتثاثه دون إثارة قضايا قومية معقدة.
ثالثًا: تكتيك التديّن "الصامت"
حينما استلم ماو تسي تونغ الحكم وأعلن قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949، تبنّت الدولة سياسة إلحاد صارمة، واعتُبرت الأديان "أفيون الشعوب". وخلال الثورة الثقافية (1966–1976)، تم تدمير آلاف المساجد والمعابد، واضطُهد المتدينون جميعًا.
لكن المسلمين، مثل غيرهم من المتدينين، لجأوا إلى ممارسة شعائرهم في الخفاء:
- صلوات في البيوت بدلًا من المساجد.
- تعليم القرآن سرًا داخل الأسر.
- إخفاء الهوية الدينية للحفاظ على الحياة.
هذا التديّن "الصامت" أنقذ الدين من الاجتثاث الكامل، وحافظ على جذوة الإيمان مشتعلة في الخفاء، حتى خفّ القمع في الثمانينات.
رابعًا: سياسات ما بعد ماو
بعد وفاة ماو، خفّت وطأة القمع، خاصة في عهد دنغ شياو بينغ، الذي قاد انفتاحًا اقتصاديًا مصحوبًا بتساهل نسبي تجاه الأديان. فسمحت الدولة ببناء المساجد مجددًا، وافتُتحت بعض المدارس الإسلامية، وعادت بعض الممارسات الدينية تحت إشراف الدولة، خصوصًا لدى أقلية الهوي التي تُعد أكثر اندماجًا في الهوية الصينية العامة.
خامسًا: الإسلام كهوية مقاومة
في بعض المناطق مثل تركستان الشرقية (شينجيانغ)، تحوّل الإسلام إلى هوية ثقافية مقاومة في وجه الهيمنة الشيوعية الصينية ومحاولات صهر الشعوب في "الهوية الصينية الواحدة". ولذلك، لم يُنظر إلى الإسلام كدين فقط، بل كرمز للانتماء والرفض والممانعة.
وهذا ما يفسر التصعيد الحالي ضد مسلمي الإيغور، واستخدام الصين لمعسكرات "إعادة التأهيل" بهدف محو هذه الهوية الدينية/القومية.
خلاصة تحليلية
الإسلام بقي في الصين رغم القمع الشيوعي لأنه:
- دخل مبكرًا واستقر قرونًا.
- تجذر داخل جماعات عرقية يصعب فصلها عن الدين.
- تبنّى في فترات الاضطهاد استراتيجية الخفاء والنجاة.
- استفاد لاحقًا من فترات الانفتاح المحدود.
- تحوّل أحيانًا إلى رمز ثقافي للممانعة ضد الاستيعاب القسري.
بقاء الإسلام في الصين ليس معجزة، بل شهادة على قدرة الهوية الثقافية على الصمود في وجه مشاريع السلطة الشمولية، وهو ما نراه أيضًا في تجارب شعوب وأقليات أخرى واجهت القمع باسم التحديث أو الوحدة الوطنية.
وصف الصورة المقترحة: خريطة الصين مع إبراز منطقة شينجيانغ، وخلفية رمزية لمسجد صيني تقليدي محاط بأسلاك شائكة، تعبيرًا عن القمع والهوية الدينية المحاصرة.