ضرب المستشفيات: حين يُقصف الشاهد قبل المريض

سلسلة جرائم اسرائيل العلنية: في كل حرب هناك خطوط حمراء، وفي كل عرف إنساني هناك مناطق يُفترض أن تكون محرّمة على القصف، تتقدّمها المستشفيات بوصفها آخر ما تبقّى من رمزية الرحمة في زمن الجحيم. لكن في الحروب الإسرائيلية على غزة، لم تسلم هذه الرموز من القصف، ولم تُحترم كمرافق إنسانية، بل تحوّلت إلى أهداف عسكرية متكررة، في مشهد يتجاوز القتل إلى محو الدلالة.

لم تكن استهدافات المستشفيات الفلسطينية أخطاء عرضية، ولا حوادث معزولة، بل نمطًا منهجيًا ومتكررًا، يعكس توجهًا سياسيًا وعقيدة أمنية ترى في "المكان الآمن" تهديدًا، وفي "الرمز الإنساني" خصمًا يجب سحقه، وفي "المصاب" شاهدًا محتملًا يجب كتم صوته قبل أن يُسمع.

رمزية المستشفى في الوعي الجمعي

المستشفى ليس مبنى فقط. إنه فضاء نفسي وثقافي، يمثل الأمل والاستقرار والرعاية في أزمنة الانهيار. وعندما يُضرب هذا المعنى بالقذائف، فإن ذلك لا يحقق فقط غرضًا عسكريًا، بل يُرسل رسالة مركّبة: لا خطوط حمراء، ولا حرمة لأحد، ولا مكان يحميكم. فالهجوم هنا يطول القيمة قبل الجدران، والوجدان قبل الضحية.

الذريعة المعلّبة: "وجود مسلحين"

كلما قُصفت مستشفى، تخرج الرواية الإسرائيلية ذاتها: "كان هناك عناصر مقاومة". وهي حجة واهنة من حيث القانون، لأنه حتى في حال وجود مقاتلين، يبقى على الدولة المهاجِمة التمييز والتناسب، لا أن تسوّي المستشفى بالأرض وتقتل المرضى والأطباء على السواء.

المفارقة أن هذه الذريعة لا تُقبل حين تستخدمها أطراف أخرى في العالم، بل يُدينها الإعلام الغربي ويطالب بالتحقيق. أما إذا قيلت بلسان إسرائيلي، فإنها تتحول إلى حق مشروع يُعفي المجرم من الحساب.

استهداف الشاهد قبل الضحية

من يعمل في المستشفيات ليس فقط معالجًا، بل موثّقًا وشاهدًا على المجازر. الطواقم الطبية، والكاميرات، وسجلات الإصابات، كلها تشكّل معالم رواية مضادة للسردية العسكرية الإسرائيلية. ولهذا فإن قصف المستشفيات يحمل بُعدًا مضاعفًا: إسكات الشاهد قبل أن ينقل شهادته، وكسر الرواية من داخل مكان ولادتها.

الضربة النفسية: لا ملجأ لكم

حين تُضرب المدارس، يقول الناس سنحتمي في المستشفيات. وحين تُضرب المستشفيات، تنقطع آخر خيوط الأمان. وهذا يُنتج نوعًا من الرعب الجماعي غير القابل للاحتواء، يراد به شلّ الإرادة الشعبية وتعميم فكرة الاستسلام: أنتم مكشوفون في كل مكان، ولا أحد يمكنه إنقاذكم.

الأهداف والنتائج

1. الأهداف المباشرة للجريمة:

  • تدمير ما يُعتقد أنه بنى تحتية يستخدمها المقاومون.
  • منع معالجة الجرحى وبالتالي تقليل قدرة المقاومة البشرية على الصمود.
  • تعطيل عمل الطواقم الطبية التي توثّق الجرائم وتنقل صورة الواقع للعالم.

2. الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:

  • تحطيم الرموز النفسية للمجتمع الفلسطيني (مثل المستشفى كمأوى أخلاقي وإنساني).
  • بث الرعب المستمر ومنع تشكّل أي بيئة آمنة، مما يؤدي إلى تفكيك البنية الاجتماعية والنفسية.
  • اختبار ردود الفعل الدولية تمهيدًا لتوسيع حدود "المباح" في الحروب القادمة.

3. النتيجة (الميدانية أو السياسية أو الإعلامية):

  • عجز المجتمع الدولي عن إدانة الفعل بشكل صريح، مما عزز شعور إسرائيل بالإفلات من العقاب.
  • توسع فجوة الثقة بين الشعوب والمؤسسات الإنسانية العالمية التي اكتفت بالقلق دون تحرك.
  • تعزيز السردية الإسرائيلية أمام إعلامها المحلي، مقابل خنق الرواية الفلسطينية في الإعلام الغربي.

الخاتمة: الجريمة التي تقتل مرتين

ضرب المستشفيات ليس فقط جريمة قتل مباشر، بل هو قتل للقيمة، للملاذ، للرمز. إنه عدوان مزدوج، يطول الجريح والراوي، السقف واليقين، ويكشف أن ما يحدث في غزة ليس صراعًا على الأرض فقط، بل على المعنى أيضًا. وفي هذا الصراع، تستخدم إسرائيل كل أدواتها، وتخترق كل المحرمات، ثم تقف على أنقاضها لتصوغ روايتها الكاذبة، بينما العالم يكتفي بالأسف الصامت.

أحدث أقدم
🏠