
التجويع كسلاح سياسي
منذ فرض الحصار على قطاع غزة عام 2006، بعد فوز حركة حماس في الانتخابات، تبنّت إسرائيل سياسة ممنهجة تقوم على تجويع السكان دون الوصول إلى المجاعة الكاملة. تم تسريب وثائق لاحقًا تؤكد أن الحكومة الإسرائيلية كانت تُجري حسابات دقيقة لكمية السعرات الحرارية التي يُسمح بدخولها، بحيث يُبقي الناس على "قيد الحياة" لكن دون "نوعية حياة".
إنها جريمة بطيئة، ترتدي عباءة الأمن، لكنها لا تستهدف الأمن، بل تُحاصر الوعي والمقاومة، وتُمعن في إذلال البشر تحت لافتة "الحصار الوقائي".
خنق غزة تحت ذريعة الحماية
الحصار لا يعني فقط نقص المواد الغذائية، بل يتعداه إلى منع الدواء، وقطع الكهرباء، وإغلاق المعابر، ومنع مواد البناء، وتعطيل منظومة الصرف الصحي والمياه. وهذه كلها لا تُرى بسهولة في نشرات الأخبار، لكنها تدمر يوميات الناس وتستهدف نسيجهم النفسي والاجتماعي.
الخطير أن هذه السياسة تمارس علنًا، ويُعاد تسويقها بلغة الإعلام الغربي على أنها جزء من "معركة أمنية مشروعة"، دون مساءلة حقيقية للجريمة.
التبرير الإعلامي للجريمة
في الخطاب الإعلامي الغربي، لا تُوصف سياسة التجويع بأنها جريمة حرب، بل تُغلف بمصطلحات محايدة مثل "أزمة إنسانية" أو "ظروف معيشية صعبة". هكذا تُحذف إسرائيل من السرد، ويُحول الجلاد إلى مجهول. الإعلام هنا لا يواكب الجريمة، بل يساهم في شرعنتها من خلال تغييب الفاعل، وطمس البنية الاستعمارية التي تقف خلف كل معاناة.
بلغة بسيطة: الإعلام الغربي لا يُغطي التجويع، بل يغطي عليه.
التجويع النفسي والاجتماعي
لا يستهدف التجويع الجسد فقط، بل يضرب النفس. حين يُجبر أبٌ على اختيار أي طفل من أطفاله يُطعم أولًا، أو حين تُضطر أمٌ لخلط الدواء بالماء الملوث، فإن الجريمة تتجاوز حدود الاقتصاد، وتدخل في نسيج الكرامة الإنسانية. الاحتلال يعرف تمامًا أن الفلسطيني المقاوم لا يُقهر بالسلاح فقط، بل بتفكيك بيئته الداخلية ومجتمعه من الداخل.
الأهداف والنتائج
1. الأهداف المباشرة للجريمة:
- خنق المقاومة اقتصاديًا عبر تجفيف موارد الحياة الأساسية.
- الضغط على الحاضنة الشعبية للفصائل المقاومة من خلال إضعاف قدرتها على الصمود.
- خلق بيئة يائسة تُجبر الناس على القبول بالتسويات السياسية المفروضة.
2. الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:
- إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني ضمن ثقافة البقاء بدل ثقافة التحرر.
- تفكيك النسيج الاجتماعي عبر استنزاف الأسر والمجتمعات.
- تثبيت صورة الاحتلال كقدر لا يمكن تغييره بل فقط "التكيف معه".
3. النتيجة:
- استمرار الحصار دون تكلفة سياسية حقيقية على إسرائيل.
- تراجع الضغط الدولي، وتحول المأساة إلى "أزمة إنسانية" منزوعة الدلالات السياسية.
- بقاء المقاومة محاصرة داخليًا، معتمدًة على أنفاس محدودة من الخارج.
الوعي قبل المساعدات
ما يحتاجه الفلسطيني اليوم ليس فقط خبزًا ودواءً، بل خطابًا جديدًا يفضح الجريمة لا يُخدّرها. حين تتحول المساعدات الإنسانية إلى ستار يُخفي يد القاتل، فإننا نكون أمام شراكة دولية في الجريمة، وإن بصمت.
المطلوب ليس فقط أن نُطعم الضحية، بل أن نُسمّي الجلاد. لأن من يُدير التجويع بأجهزة الحواسيب ليس أقل إجرامًا ممن يطلق النار. والسكوت عن هذه السياسة، مهما تلطّف، هو انخراط في الجريمة لا حياد عنها.