
منذ بداية عدوانها على غزة، اعتمدت إسرائيل سياسة الحصار الشامل كأداة حرب ممنهجة: تقطع الكهرباء، تعطل الإنترنت، وتمنع دخول الماء والوقود، لتترك أكثر من مليوني إنسان في ظلام دامس، وعطش قاتل، وانقطاع عن العالم. كل هذا تحت نظر العالم، وبموافقة ضمنية من أنظمة دولية تزعم الدفاع عن "الحق في الحياة".
لكن هذه الجريمة ليست ارتجالية، ولا ردّ فعل على تطورات ميدانية. إنها خطة محسوبة، مدروسة النتائج، محددة الأهداف، وهي تُمارس علنًا، بلا قفازات، في مشهد يختزل جوهر المشروع الصهيوني منذ نشأته: تجريد الفلسطيني من إنسانيته، ودفعه نحو الهلاك البطيء، أو الاستسلام التام.
الحصار كأداة إبادة
إن قطع الكهرباء عن المستشفيات ليس مجرد "ضغط تكتيكي"، بل قتلٌ مباشر للمرضى، للأطفال، لحديثي الولادة. وإن قطع الإنترنت ليس إجراءً فنياً، بل إخفاء للجريمة، ومحوٌ للصرخات قبل أن تصل إلى العالم. وإن منع الماء ليس خللاً لوجستياً، بل تعطيش ممنهج يعاقب المدنيين لأنهم اختاروا البقاء على أرضهم.
تدرك إسرائيل تمامًا أن وسائل الحياة الحديثة ليست رفاهية، بل ضرورة، وأن نزعها يعني الموت الصامت. ولهذا، فهي تعتبر أن خنق الحياة في غزة أداة مشروعة في حربها، مدفوعة بصمت دولي يمنح الجلاد الوقت الكافي لإتمام جرائمه، بحجة "حق الدفاع عن النفس".
قطع الإنترنت: الجريمة الصامتة
في لحظة حرجة من العدوان، لجأت إسرائيل إلى فصل غزة تمامًا عن العالم الرقمي. انقطعت شبكات الاتصال، توقفت البثوث المباشرة، وتحولت غزة إلى صندوق مغلق تحت القصف. لا توثيق، لا صوت، لا شهود. إنها محاولة خبيثة لتكرار مشهد النكبة، لكن دون كاميرات.
في غياب الإنترنت، تتوحش الجريمة أكثر: المجازر تُرتكب بلا شهود، وصراخ الأطفال لا يُسمع، وتصبح الكلمة الوحيدة المتاحة هي كلمة المحتل، التي تُروّجها وسائل إعلام غربية تعيد تدوير سردية "الضحية التي تدافع عن نفسها".
(الأهداف والنتائج)
1. الأهداف المباشرة للجريمة:
- شلّ البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني في غزة.
- منع توثيق الجرائم وبثّ صور الضحايا إلى العالم.
- تركيع السكان عبر تدمير الحد الأدنى من شروط الحياة.
2. الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:
- تكريس سياسة العقاب الجماعي كأسلوب ردع لأي مقاومة.
- خلق بيئة طاردة تسهم في تفريغ غزة من سكانها.
- تطبيع فكرة "القتل البطيء" كأداة مقبولة دوليًا ضد الفلسطينيين.
3. النتيجة (الميدانية أو السياسية أو الإعلامية):
- تعقيد عمل المنظمات الإغاثية والطبية وتعطيل عمليات الإنقاذ.
- تغييب الشهادة البصرية عن الانتهاكات، مما يصب في صالح الرواية الصهيونية.
- انكشاف صمت المجتمع الدولي، وتعرية ازدواجية المعايير الغربية.
جريمة واضحة... لكنها بلا عقاب
ما يحدث في غزة لا يحتاج إلى تحقيقات دولية معقدة، ولا إلى لجان تقصي حقائق محايدة. الجريمة وقعت، والشهود بالملايين، والفاعل معروف. لكن حين تكون الضحية فلسطينيًا، والجلاد إسرائيليًا، تُغلق المحاكم، وتصمت الضمائر، وتُنشر بيانات "القلق".
هذه الجريمة، كما غيرها، لن تُمحى من الذاكرة الجمعية، مهما طال الحصار. ولعلّ أقسى ما فيها ليس قطع الكهرباء أو الماء، بل ذلك الصمت العالمي الذي يغذي الظلام، ويشارك في الجريمة من دون رصاصة واحدة.