الحصار الطبي والتجويع الدوائي: حين يصبح المرض موتًا بطيئًا

في الحروب التقليدية، يُقتل الإنسان بصاروخ. أما في غزة، فقد أصبح المرض نفسه صاروخًا آخر، لكنه لا ينفجر مرةً واحدة، بل يتسلل ببطء، يلتفّ حول القلب والكِلى والأعصاب، ويمضي نحو الموت على مهل. لم يعد القتل مجرّد فعل مباشر، بل أصبح صناعةً صامتة تتقنها أدوات الحصار، حيث يتحول الدواء إلى أمنية، والإبرة إلى معركة، والمستشفى إلى غرفة انتظار باردة للموت البطيء.

الدواء... ترف سياسي؟

لا يُنظر إلى الأدوية في غزة كحق إنساني أو ضرورة طبية، بل كسلعة سياسية تُدار بمنطق العقاب الجماعي. يمنع الاحتلال دخول شحنات الأدوية الحيوية بحجة "الاستخدام المزدوج"، ويخضع توريد المستلزمات الطبية لموافقات أمنية طويلة، فيتحول كل مرض مزمن إلى تهديد وجودي.

مهنة الطبيب تحت الحصار

في غزة، لا يمارس الطبيب مهنته، بل يمارس صراعًا مع العجز. أدوات جراحية تنقص، أدوية مسكنة تُقنَّن، أجهزة تصوير تتعطل دون بدائل، والقرار: "ارتجل". تصبح المهنة ساحة يومية للانكسار أمام سطوة الحصار، في مجتمع منهك، مريض، لا يملك حقّ العلاج ولا حتى أمل المحاولة.

المريض الفلسطيني... متهم حتى يثبت عكس ذلك

لكي يُسمح لمريض من غزة بالخروج للعلاج، يجب أن يحصل على "تصريح أمني" من دولة الاحتلال. يُفترض أن يقنعهم أنه ليس خطرًا، ولا ينتمي لـ"البيئة الخطأ". وفي انتظار التصريح، يموت العشرات، أو يعودون بجثثهم محمولةً إلى معابر مغلقة.

الألم كوسيلة عقاب

حين يُمنع العلاج، لا يكون ذلك عرضًا جانبيًا للحرب، بل وسيلة عقاب متعمدة. سياسة التجويع الدوائي تجعل الألم نفسه عقوبة جماعية، تكسر الفرد والأسرة، وتزرع اليأس في نفوس الأطفال الذين يرون ذويهم يتألمون بصمت، في انتظار دواء لا يصل، أو تصريح لا يأتي.

الأهداف والنتائج

  1. الأهداف المباشرة للجريمة:
    إضعاف البنية الصحية في غزة، وتدمير قدرة المجتمع على الصمود، عبر تحويل المرض إلى أداة فتك تدريجية.

  2. الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:
    تفكيك الروح الجمعية للسكان من خلال تجويعهم طبيًا، وخلق قناعة لدى الأجيال بأن الحياة في غزة لا تستحق العيش، وبالتالي دفعهم للقبول بأي بدائل سياسية أو تهجيرية قادمة.

  3. النتيجة:
    انهيار تدريجي في النظام الصحي، زيادة الوفيات غير المعلنة، وارتفاع أصوات المنظمات الدولية دون أي تدخل فعلي، مما يمنح إسرائيل مساحة لتوسيع جريمتها دون تكلفة سياسية حقيقية.

حين يصبح المرض سلاح إبادة بطيئة

ليست هذه مجرد "أزمة إنسانية"، بل جريمة إبادة صامتة، لا تنقلها الكاميرات لأنها لا تنفجر بل تتسلل. الجرح الذي لا يُعالج، والألم الذي لا يُخدّر، هما وجهان آخران للقصف، لكنهما أكثر خبثًا، وأطول أثرًا. فهنا، تُرتكب الجريمة على مدى شهور وسنوات، بينما ينشغل العالم بعدّ الصواريخ.

أحدث أقدم
🏠