
في غزة، لا تأتي شاحنة الطحين بلا إذن. لا تُدخل عبوة حليب إلا إذا وقّعت على أنك غير معادٍ. في كل كيس أرز، بصمة سياسية، وفي كل خيمة مؤقتة، رسالة إذلال واضحة: نحن نمنحكم الحياة، ولكن بشروطنا.
الطعام مقابل الصمت
يُمنع دخول المساعدات أحيانًا بحجة "الاشتباك"، وتُسمح أحيانًا أخرى كأداة تحكُّم سياسي. في أكثر من مرة، ربط الاحتلال بين السماح بدخول الغذاء وبين سكوت فصائل المقاومة. وكأن الجوع يُستخدم لفرض الاستسلام.
والأخطر، أن يتم توزيع بعض المساعدات على مناطق دون أخرى، وفق خريطة سياسية ترسمها إسرائيل، فتُكافَأ المناطق الصامتة، وتُعاقَب المناطق المقاومة. يتحول الخبز إلى مكافأة، والماء إلى جزرة سياسية، ويصبح الفُتات أداة تهذيب شعبي جماعي.
المساعدات كواجهة للابتزاز الدولي
ليست إسرائيل وحدها من يستخدم هذا التكتيك، بل أيضًا عبر أدوات الأمم المتحدة، والمنظمات الإنسانية الممولة من دول تخضع للقرار السياسي الأمريكي. تُمنح المساعدات وفق "معايير النزاهة"، لكن ما يُقصَد بالنزاهة هنا هو: أن لا تتهم إسرائيل، وأن لا تذكر كلمة "احتلال".
إنها مساعدات مشروطة، توزَّع على شعب تحت النار، ولكن بشرط ألا يشتكي من النار. ومن لا يصمت، يُمنع عنه الغذاء. ومن يطالب بحقه، يُمنَع عنه الماء.
"خيمة بطعم الذل"
تُوزَّع الخيام أحيانًا في مشاهد احتفالية أمام الكاميرات، وكأن الإنسان الفلسطيني مدعوّ ليشكر جلاده لأنه لم يتركه في العراء. لكن الحقيقة المُرّة: أن هذه الخيمة هي الغطاء الرمزي للنكبة، ومَن منحها لك اليوم، هو مَن دمّر بيتك بالأمس.
الأهداف والنتائج
-
الأهداف المباشرة للجريمة:
إخضاع السكان وترويضهم سياسيًا باستخدام حاجاتهم الأساسية كورقة تفاوض، وفرض معادلة الطاعة مقابل البقاء. -
الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى:
خلق حالة من الاعتمادية الدائمة على "الاحتلال الطيّب"، وتشويه صورة المقاومة من خلال ربطها بحرمان الناس من الطعام، بهدف إعادة تشكيل الوعي الجمعي ليخاف المقاومة أكثر مما يخاف الاحتلال. -
النتيجة:
تطويع المجتمع الفلسطيني عبر سياسات التجويع المنظم، وتحقيق مكاسب سياسية وأمنية دون إطلاق رصاصة واحدة، مع الحفاظ على صورة إسرائيل كمزوّد إنساني "رؤوف" أمام الرأي العام الغربي.
حين يتحوّل الخبز إلى تهديد سياسي
لا شيء أكثر قسوة من أن يُخيَّر الإنسان بين كرامته وجوع أطفاله. في غزة، لم تعد المساعدات الإنسانية فعل رحمة، بل ساحة مواجهة رمزية، يتحكّم فيها الاحتلال بوجبة الغد، ويصوغ بها معادلة: "إما أن تسكت... أو تجوّع".